ومن تجاربي التي أعلمها في الكتابة والقراءة أنني أقرأ كثيراً في موضوعات لا أطرقها ولا أنوي أن أطرقها إذا كتبت للتأليف أو للصحافة ومن هذه الموضوعات طبائع الأحياء وعجائب النبات ورحلات الأقدمين والمحدثين، وما من خليقة إنسانية أعرفها إلا أحببت أن أقابل بينها وبين نظائرها في عالم الحيوان أو عالم النبات ولكني لا أفعل ذلك تمهيداً للكتابة عنها وإن جاءت الكتابة عرضاً في بعض المناسبات.
وما زالت المطالعة ملجأ نفسياً للمطالع يأوي إليه ويحب أن يخرج إليه من شواغل دنياه. فالرجل المشغول بالمسائل الطبية أو الاجتماعية أو السياسية يروقه أن يخلو ساعة من الساعات بالشعر أو بالقصة أو بكتاب من كتب الإيمان والعقيدة، وهو إذا قرأ في كتب الإيمان والعقيدة لا ينوي من ثم أن يبشر بالدين أو يؤم الناس في الصلاة، ولكنه يستريح من حال إلى حال، ويدع الدنيا هنيهة لينفرد بضميره أو بتفكيره في مناجاة لا علاقة بينها وبين الناس.
فالاختلاف بين العالم الخاص والعالم العام في كثير من الأوقات معقول لا غرابة فيه، ومن قبيل هذا الاختلاف أن يختلف ما نقرأ وما نكتب، وأن يختلف ما يعنينا وما يعني قراءنا، فهم يقرأوننا نحن ونحن لا نقرأ أنفسنا، بل نقرأ غيرنا ولا يلزم أن يكونوا معنا طرازاً واحداً لا تنوع فيه.
لكن ينبغي أن نفرق بين هذا وبين القول بأن الكاتب يعيش في عالم غير الذي يقرأه ضرورة لا محيص عنها.
فإذا وجد من يقرأ أبا العلاء ويكتب في القانون فلا مانع ولا شذوذ، ولكنه لا يحرم عليه أن يقرأ أبا العلاء ويكتب في الزهد والأخلاق أو العقائد والديانات.
ومن البصرة أيضاً جاءتني رسالة ختمها كاتبها الأديب (الفريد سمعان) من طلبة المدرسة الثانوية بسؤال يقول فيه:
(. . . هل يكتفي الأديب أو الذي يريد أن يصبح أديباً بمطالعة الكتب التي تصدر في العصر الحاضر دون الرجوع إلى الكتب القديمة والاعتماد على المخطوطات السالفة؟)
وهذا سؤال مفيد.
وجوابه أن الاكتفاء بأدب العصر الحاضر مستطاع ولكنه ليس بأفضل الحالات.