وتقاس حاجات النفس على الجسد بغير اختلاف يذكر في هذا المقام.
فالرجل الذي يكتفي بمحصول أرض واحدة يعيش ويأخذ بنصيبه من الحياة، ولكنه ليس بأوفى نصيب وليست عيشته الجسدية كعيشة الرجل الذي يغتذي بمحصولات البلاد على تنوعها ويأخذ من كل محصول خير ما يعطيه.
وقد يوجد في الأدباء من يكتب أو ينظم وليس له اطلاع واسع على أدب عصره ولا على آداب العصور الأخرى.
وكذلك يوجد في أقوياء الأجسام من يأكل الطعام الغث ويستفيد منه لجودة هضمه وانتظام وظائف جسده.
ولكننا عندما نضع قواعد الصحة وأصول التغذية لا نقول للناس كلوا الطعام الغث واعتمدوا عليه في تقوية الأبدان وتنظيم وظائف الأعضاء.
وعلى هذا القياس نفسه لا نقول للناس عندما نضع قواعد القراءة وأصول التثقيف والتهذيب إن الاطلاع وترك الاطلاع يستويان.
فالانتفاع بالطعام الغث شذوذ لا يقاس عليه. ومثله في الشذوذ أولئك الذين ينظمون أو يكتبون ما يحسن أن يقرأه القارئ دون أن يرجعوا إلى أدب العصر أو آداب العصور.
ومما لأمراء فيه أن الرجل الذي ينتفع بالطعام الغث يزداد انتفاعه بالطعام الجزل كلما وصل إليه، وأن الرجل الذي ينظم أو يكتب بغير اطلاع يترقى في منازل الأدب كلما استوفى حظه من المطالعة والدرس والمراجعة.
فالاكتفاء بالقليل من الأدب جائز كالاكتفاء بالقليل من كل شيء، ولكنه القليل في الحالتين ولن يكون شأنه كشأن الكثير.
ومن الحسن جداً في هذا الباب أن نذكر أن الأديب قيمة حيوية أو قيمة إنسانية قبل أن يكون قيمة لغوية أو قيمة فنية أو تاريخية.
ويغنينا تذكر هذه الحقيقة عن الجدل أو عن اللبس في كثير من الأمور.
فالذين يقولون إن الطبيعة هو وحي الشاعر الأول الذي لا يحتاج بعده إلى وحي الصناعة:
أو الذين يقولون إن البلبل يوحي إلى الشاعر بتغريده. وإن الوردة توحي إليه بنضرتها، وإن الشفق يوحي إليه بألوانه وظلاله وخفقات الهواء فيه. . .