قلوبهم ونضرت وجوههم، وتحدثوا في ماضيهم وحاضرهم. ثم اجتمعوا على المائدة فكهين فرحين يذكرون المعري ويذكرون الأدب العربي والأمة العربية كلها. ورب الدار وأولاده وأقاربه قائمون يتنافسون في خدمة الضيفان مبالغة في الاحتفاء والإكرام.
وقدّمت الفواكه فيها تين المعرة وهو أخضر كبير حلو. قلنا لهذا رغب أبو العلاء في التين وجعله حلاوته قال:
يُقنعني بُلسُن يمارس لي ... فأن تكن حلاوة فبَلَس
والبلس التين.
وقال ياقوت في معجم البلدان عن أهل المعرة: (ماؤهم من الآبار وعندهم الزيتون الكثير والتين).
خرجنا بعد هزيع من الليل والقمر يترقرق نوره على بلدة أبي العلاء الحبيبة - كانت - إليه، وفيها يقول وهو ببغداد:
فيا برق ليس الكرخ داري وإنما ... رماني إليه الدهر منذ ليال
فهل فيك من ماء المعرة قطرة ... تغيث بها ضمآن ليس بسال
فيا وطني إن فاتني بك سابق ... من العيش فلينعم لساكنك البال
فان أستطع في الحشر آتِك زائراً ... وهيهات لي يوم القيامة أشغال
وضربنا صوب الشمال نقصد حلب.
كلما رحبت بنا الروض قلنا ... حلب قصدنا وأنت السبيل
والسيارات تجدّ في سكون الليل لا يُسمع إلا دويها ولا يرى معها إلا ظلالها. ورحم الله أبا العلاء كأنه عناها حين قال:
ولما لم يسابقُهنَّ شيْ ... من الحيوان سابقن الظلالا
وكان حديثنا أفانين في تاريخنا وحاضرنا وذكرى أبي العلاء وبعض الشعراء لا سيما أبو الطيب المتنبي، وتأبى مكانة أبي الطيب إلا أن تصله بكل حديث عن الأدب أو جدال فيه. وصدق الأستاذ النشاشيبي حين يقول: ما تلكم اثنان في الأدب إلا دخل معهما المتنبي خصما ثالثاً. وكم أنشدنا من شعر أبي الطيب في مسيرنا هذا وردّدنا الحديث بينه وبين المعري المعجَب به. وكيف لا نذكر المتنبي ونحن على مقربة من حلب التي ما برحت