يعوذ برب الفجر (من شر ما خلق) هكذا بالتنكير وبما الموصولة الشاملة. وفي هذا التنكير والشمول يتحقق الغموض والظلام المعنوي في العموم. (ومن شر غاسق إذا وقب) الليل حين يدخل ظلامه إلى كل شيء، ويمسى مرهوباً مخوفاً. (ومن شر النفاثات في العقد) وجو النفث في العقد من الساحرات والكواهن كله رهبة وخفاء وظلام، بل هن لا ينفثن غالباً إلا في الظلام. (ومن شر حاسد إذا حسد) والحسد انفعال باطني مطمور في ظلام النفس، غامض مرهوب كذلك.
الجو كله ظلام ورهبة، وخفاء وغموض. وهو يستعيد من هذا الظلام بالله، والله رب كل شيء. فلم خصصه هنا (برب الفلق)؟. . . لينسجم مع جو الصورة كلها، ويشترك فيه. ولقد كان المتبادر إلى الذهن أن يعوذ من الظلام برب النور، ولكن الذهن هنا ليس المحكم، إنما المحكم هنا هو حاسة التصوير الدقيقة، فالنور يكشف الغموض المرهوب، ولا يتسق مع جو الغسق والنفث في العقد، ولا مع جو الحسد. . . و (الفلق) يؤدي معنى النور من الوجهة الذهنية ثم يتسق مع الجو العام من الوجهة التصويرية، وهو مرحلة قبل سطوع النور تجمع بين النور والظلمة، ولها جوها الغامض المسحور.
ثم ما هي أجزاء الصورة هنا أو محتويات المشهد؟
هي من ناحية:(الفلق، والغاسق) مشهدان من مشاهد الطبيعة ومن ناحية (النفاثات في العقد، وحاسد إذا حسد) مخلوقان آدميان.
وهي من ناحية:(الفلق) و (الغاسق) مشهدان متقابلان في الزمان. ومن ناحية:(النفاثات) و (الحاسد) جنسان متقابلان في الإنسان.
وهذه الأجزاء موزعة على الرقعة توزيعاً متناسقاً. متقابلة في اللوحة ذلك التقابل الدقيق. وكلها ذات لون واحد، فهي أشياء غامضة مرهوبة، يلفها الغموض والظلام. والجو العام قائم على أساس هذه الوحدة في الأجزاء والألوان.
ليس في هذا البيان شيء من التمحل، وليست هذه الدقة كلها بلا هدف. وليس هذا الهدف حلية عابرة. فالمسألة ليست مسألة ألفاظ أو تقابلات ذهنية. إنما هي مسألة لوحة وجو وتنسيق وتقابلات تصويرية تعد فناً رفيعاً في التصوير، يلفت النظر إذا أداه مجرد التعبير.
٢ - عبر القرآن عن الأرض قبل نزول المطر، وقبل تفتحها بالنبات، مرة بأنها (هامدة)