فالأمم كالأفراد، تبدأ أولاً بالإدراك الحسي، ثم بعد ذلك ترقى إلى الإدراك العقلي أو المعنوي، وبعبارة أخرى، تبدأ أولاً بفهم الصور الجزئية، ثم تتدرج منها إلى الحدود أو النصوص العامة، وعلى ذلك كانت لغة المجتمع الراقي لغة فلسفية، ولغة المجتمع نصف المتمدين لغة شعرية، وان التطور الذي يطرأ على اللغة من تذليلها وتوسيعها وإعدادها لمقابلة التقدم الفكري ليعد شديد الخطر على الشعر عظيم الفائدة للفلسفة.
وعلى ذلك فانه بقدر ما تتزايد معارف الناس وبقدر ما يتزايد تفكيرهم، بقدر ما ينصرفون عن الجزئيات ويقبلون على الأنواع، وحينئذ يصلون إلى نظريات راقية، بينما هم في الشعور لا ينتجون إلا آثاراً سقيمة قوامها العبارات الغامضة، بدل الصور الناطقة، والحجج الجافة بدل الأخلية الرائعة، أو بعبارة أخرى يكون قوام عملهم في الشعر الصفت المجردة بدل الأشخاص والأرواح الحية.
نعم إن هؤلاء المفكرين قد يكونون أكثر ممن سبقوهم مقدرة على تحليل وفهم الطبيعة البشرية، ولكن التحليل ليس من عمل الشاعر، فعمل الشاعر أن يصور وليس من عمله أن يحلل أو يشرح، والتحليل في الفنون يذهب روعتها، ويبطل سحرها، وموقف الشاعر من الفيلسوف موقف المصور في صالته من الطبيب أمام مشرحته، كلاهما يعرف أجزاء الجسم ولكنهما لا يقصدان غرضاً واحداً، بل ولا يركبان في زورق واحد، ولقد يفهم الشاعر الفضائل العامة والطبيعة البشرية كما يفهمها الفيلسوف، ولكنه في تلك الحالة لا تؤثر عقيدته في شعره إلا كما يؤثر علم المصور بنظام الدورة الدموية في فنه إذاهو حاول أن يرسم تساقط دموع (نيوبا) أو توقد خد (أورورا)
ولو أن شكسبير مثلا قد وضع كتاباً في الدوافع التي تسيطر على سلوك الإنسان لما كان من المحتمل بأي حال أن يجيء كتابه جيداً، ولما كان من المحتمل أن يحوي من التحليل ومتانة الحجج مثل ما يحويه كتاب يخرجه عالم من العلماء المعاصرين، ولكن أي عالم لعمري يستطيع أن يخلق (اياجو) نعم! أي عالم يستطيع مع قدرته على تحليل الشخصيات إلى عناصرها أن يضم من هذه العناصر ما يريد ليخرج لنا في النهاية رجلا مثل (اياجو) له خلق خاص وطبيعة خاصة وسلوك خاص؟
ولا يكتفي ماكولي بهذه البراهين التي ساقها للتفرقة بين الشعر والفلسفة، بل انه ليخطو إلى