تضحية كثيرة يستعذبونها. وطريقتهم في الحياة هذه عزيزة عليهم، يجدون فيها مثلهم الأعلى في الشرف والسعادة. وليس من الحق والإنصاف أن يسمى الباعث إلى أعمالهم أثرة بالمعنى الذي يقصد إليه لاروشفوكو ويفهم عادة من هذه الكلمة وهذا الفيلسوف أبيقوري كمعاصره (هوبز) الإنجليزي الذي يرد بعض العواطف الهامة مثل الشفقة وحب البر والإحسان إلى مصدر واحد هو المصلحة الذاتية. ولكن الحكيم الفرنسي توغل أكثر منه في النفس الإنسانية. وقليل من علماء النفس ماثلوه في دقة التحليل، ولم يصل أحد منهم بمثل مهارته إلى هذا الجزء الخفي من النفس الذي تكمن فيه بعض الأفكار الأنانية العميقة. هذه الأفكار المبهمة ينفذ إليها لاروشفوكو بعقله ويخرجها إلى النور دون أن تستطيع الإفلات منه
ويرى هوبز أن في الحياة لذتين رئيستين: لذة البدن وهي الاستمتاع، ولذة النفس وهي الغرور، ويفضل الأولى على الثانية. أما لاروشفوكو فيعتقد أن اللذة النفسية هي الجديرة بالتفضيل على غيرها. ويقول، (اكبر مسرات النفس في اعتقادي هي المجد الصحيح والمعارف الجميلة. وأومن بأن الذين يجعلون للذة الجسدية قيمة كبرى لا يملكون من هذه المعارف إلا قليلا. وأرى أن اللذة الحسية خشنة مبتذلة تلهم الاشمئزاز، ولا تستحق البحث عنها والسعي وراءها إلا إذاكان للذة النفسية نصيب كبير فيها
ولم يقل ذلك إلا بعد أن مل العبث وكلف بالقراءة والتفكير العميق. وهو وهوبز يتفقان على أبيقور على أن الأعمال الإنسانية ليست نقية من الغرض. وقد اتبعا طريقتين مختلفتين في الوصول إلى آرائهما، ولكنهما التقيا في نقطة واحدة. أما هوبز فقد استعمل طريقة الاستنباط (أي استخراج قضية من قضية أعم منها) والتعقل. وأما لاروشفوكو فقد اتبع طريقة الاستقراء (أي الانتقال من الخاص إلى العام) والملاحظة. وكلاهما اتبع سبيلا واحدة في اتجاهين متضادين، ونجحا في قطعها إلى آخرها كل في اتجاهه
لما كف لاروشفكو عن حياة الخيال والدسيسة والشغب، بدأ حياة الفكر وتسلل بعقله إلى أبعد أغوار نفسه، ولاحظ في دقة ناردة نفوس أهل عصره. ثم وجد بأنه أينما ولى بصره لا يرى غير النفاق، يطل عليه الغرور، ويمكن خلفهما الأثرة. ودلته التجربة على أن هذه الأثرة كلما دقت واستخفت على الملاحظة، كانت قوية حادة، لأنه يجعل مقياسها مبلغ