للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

عنهم وكان في استطاعته قتلهم جميعاً. فهل يقول العقل إن هذا العفو مصدره الغرور، والغرور هو الكبرياء الذي تنشئه في النفس الأعمال التافهة الهزيلة، وانتصار قيصر على عدوه ليس من الأعمال التافهة، أو يقول إنه صدر عن كسل وهو في مقدوره أن يأمر بالقتل فيطاع، أو يقول إنه صدر عن خوف وهو منتصر قوي؟ ولكن لاروشفوكو لا يجد في الإنسان طيبة نقية، ويحرم علينا أن نؤمن بوجودها، وهو يبهر النظر بالضوء الذي يلقيه على رذائل الإنسانية، ويلقي بالفضيلة في ظلمة تحجبها عن الأبصار.

ولا شك في أن الرذيلة هي التي تسب شقاء الناس، وأن الفضيلة تهيئ لهم أسباب السعادة. فكل فكرة ترمي إلى هدم الفضيلة لتقيم على أنقاضها رذيلة، هي فكرة قاضية على سعادة البشر. والفكرة التي تقضي على سعادة البشر لا يمكن أن تشتمل على حقيقة، لأن صفة الحقيقة وعملها أن تسمو بالنفس لا أن تفسدها، وأن تشع الحياة في الجماعات الإنسانية لا أن تدمرها، وأن ترهب الطغاة لا أن تشجعهم. وقد سبق القول إن هذا الفيلسوف صور نفسه وعصره ومواعظه. ورأيه في الرحمة يدلنا على ذلك أفصح دلالة، لأنه ينطبق على سياسة الملكة آن دوتريش. فان هذه الملكة بعد أن ضحى لاروشفوكو في سبيلها كثيراً وشاكس ريشليو ورفض ما عرضه عليه من الرتب إرضاء لها، لم تحسن إليه بعد أن أقيمت وصية على العرش، بل أحسنت إلى الذين كانت تحقد عليهم. وهؤلاء كانوا أتباع ريشليو، فلما مات هذا الوزير وخلفه في الحكم صنيعته مازاران، بسط عليهم جناح حمايته كسلفه، فلم تجد الملكة بداً من مداراتهم بالرحمة التي ألهمت لاروشفوكو موعظته.

يتبع

حسن صادق

<<  <  ج:
ص:  >  >>