يمضي الليل ساهراً جله ما تغمض عيناه سويعات قلائل مع مطلع الفجر.
وكان الشيخ البشري يوافي الصحف بمقالاته التي تشيع في جوانبها الجزالة والترف اللفظي، غير أنه كان يطالع كل مقالة على ملأ من إخوانه قبل نشرها، وأخبرنا رحمه الله أنه كان ينهج في رسائل (في المرآة) نهج المويلحي الكبير في تحليله الشخصيات دون خدش للأعراض أو إسفاف في الأداء. وذكر أن أحداً من الزعماء إذا عرف أن نوبته قد أقبلت في (مرآة السياسة الأسبوعية) طوى ليله ساهراً لا يغمض له جفن حتى يطالع ما كتبه عنه البشري!
لقيته - رحمه الله - أول ما لقيت صيف عام ١٩٢٨، وكان يصطاف في ضاحية (شوتس) الجميلة في رمل الإسكندرية، فتعارفنا من يومها وتوثقت بيننا الصداقة فكان لا يهبط الإسكندرية حتى يعلمني بمقدمه فلا نكاد نفترق طوال مقامه بالثغر البسيم. ولما أراد أن يسوّي من مقالاته المبثوثة في الصحف كتاباً، عهد إلي فأذكيت جماعة من النساخين في مكتبة بلدية الإسكندرية ونقلت بيدي طائفة منها مما كنت أحتفظ به من صحف ومجلات. وقد أحجم عليه رحمة الله طويلا عن جمع مقالاته في كتاب ثم أجاب طلبة أصدقائه على تكره واستثقال، وأشار إلى ذلك في مقدمة الجزء الأول من كتاب المختار فقال:(وكثيراً ما استحثني صُدقائي على أن أُسوَّي من تلك الرسائل مجموعات أطبعها وأنشرها للناس، فإذا اعتلوا على عذري بأن هذا الذي أصنع مما لا أراه يرتقي إلى هذا المكان، رحت أجاريهم بظاهر من القول، وفي التعليق على مشيئة الله تعالى من الكذب منتدح)
وكان أسلوب البشري وسطاً بين الترسل والسجع، وكانت فواصله بعيدة المدى، وتتقاصر حينما يمزح أو يداعب، ونستميح القارئ في أن نعرض عليه مثلا من الازدواجات (البشرية) الرائعة. قال رحمه الله على لسان مغرم صب (إنني ما رأيت دُرةَّ قط إلاّ حسبت أنها انتزعت من ثغرها، ولا أبصرت مرآة قط إلا ظننت أنها استعيرت من صدرها، ولا طالعت وردة ناضرة إلا خلتُ أنها قطفت من خدَّها، ولا تمثّل لي غصن من ألبان إلا أحضرني صورة قدها، ولا سطع لي عبير إلا شعرت أنه من شذاها، ولا فصحني نور إلا قدّرت أنه من إشراق محياها، ولا سمعت شّدو القُمري إلا سمعتها تتكلم وتلغو، ولا طاف بي النسيم إلا تمثلتها تلعب وتلهو؛ ولا طلعت الشمس إلا رأيتها فيها، ولا استتم البدر إلا