خلتها تعلو على الدنيا كبراً وتيها. وإني لأرفع بصري إلى السماء فأرى لها هودجاً في موكب السحاب، وأخرج إلى الفلاة فإذا هي يترقرق بها السراب، فهي سعدي وهي نحسي، وهي نعيمي وهي بؤسي، وهي لذتي وألمي، وهي صحتي وسقمي، وهي نعمتي وبلائي، وهي حياتي وفنائي)
وقال البشري الشعر في صباه، وكان يرسله في جريدة (الظاهر) هجواً في المرحوم الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد تشيعّاً منه للمرحومين مصطفى كامل ومحمد المويلحي، ثم أجبل زمانا، فلما توفي صديقه المرحوم الدكتور حلمي المنشاوي في ريق الشباب ومشرق الفتوة جرى لسانه بالشعر مرة أخرى ونشرت له (الرسالة) قصيدة باكية في ربيع عام ١٩٣٤، وكانت آخر قصيدة له فيما أعلم؛ فلم يقل بعدها شعراً.
والشيخ البشري. كما عرفه أصحابه، حسن العشرة، بارع الحديث، سريع الخاطر، يجيد المفاكهة، ويستضحك بنوادره الباكي الحزين. ومن ثم اتخذه كثير من عظماء المصريين صاحباً وخدينا، وقبلوا وساطاته وشفاعاته في الناس، ولكنه كان إلى ذلك عصبي المزاج يثور لأقل بادرة، وفي سبيل ذلك يهدر الصداقة القديمة، ومن أجل هذا المغمز كان كثير من أصدقائه يتقونه ويتحاشونه، ويخافون سقطات لسانه.
زرته في مطالع عام ١٩٣٤، وكان يسكن بضاحية الزيتون، فأخذ بيدي وأدخلني قاعة الاستقبال وأشار بيده إلى صور معلقة إلى الجدار قائلا (هؤلاء الثلاثة الذين أجلّهم وأحترمهم بين المصريين جميعاً) وتفرست في الصور فإذا هي لعظماء ثلاثة: المرحوم أحمد شوقي بك، والدكتور علي إبراهيم باشا، والدكتور عبد الحميد بدوي باشا. وقد رجعت الآن إلى كتابه (المختار) فألفيته يهديه إلى صديقه المرحوم محمد راغب عطية بك الوزير السابق بهذه العبارة (أهدي عصارة ذهني مدة الحياة، إلى من أهدت مودته إلي أحلى ذكريات الحياة).
كان الشيخ عبد العزيز البشري أديبا ملء إهابه، ولو قد قصر عملة على الأدب والكتابة لجاء فيهما بالعجب العجاب، ولكن أريد له أن يكون موظفا، وأريد له أن يكون رئيساً إدارياً، وليس ينتقص من قدر الأديب الصحيح سوى الوظائف التي لا توائم طبائعه، ولا تتفق مع سليقته، ومن ثم بدأ عجز أديبنا العظيم واضحاً حين جيء به وكيلا لإدارة