قسوته ولذعته. وبينا هي تستمع لأطيار الربيع تصدح بالغناء العذب، والصوت الرخيمالرقيق حتى في ذلك البرد القارس. وبينا هي تصغي إلى صفير الريح تمر من تجاويف إكليل الخزف وتضاعيفه تبرق في رأسها فكرة أنها تقدم نصف حياتها لو أن ذلك الإكليل البارد الميت لا يكون أمام عينيها. ثم إن (أولجا مسجرسكي هي التي دفنت في ذلك القبر)، هذه الفكرة وحدها، تغمرها في لجة من الدهش البالغ والحيرة المتناهية، فيبدو عليها وجوم عميق وذهول غريب وجزع مروع: كيف يستطيع الإنسان أن يجمع بين طالبة غضة بضة لا تتجاوز سنها السادسة عشرة، كانت قبل شهرين أو ثلاثة تتفجر حياة، وتسطع فتنة، وترفل بأزهى حلل السعادة والهناء. كيف يستطيع الإنسان أن يوفق بينها وبين تلك الأكمة من التراب وذلك الصليب الخشبي؟ أممكن أن تكون هذه هي نفس هذه الفتاة التي تشع عيناها بالخلود الأزلي من هذا الإطار النحاسي؟ وكيف يستطيع الإنسان أن يجمع بين هذه الطلعة المشرقة الوضاءة وتلك الحادثة الفظيعة التي توافق الآن اسم (اولجا مسجرسكي)؟ رحماك يا رب! إن هذا ليعجز الإفهام. . ولكن هذه المرأة القمئة الضئيلة الجسم سعيدة في قرارة نفسها، سعيدة كأولئك العاشقين الذين وقفوا حياتهم على حلم عاطفي جميل. .
هذه المرأة هي معلمة (أولجا) في المدرسة. فتاة أربت على الثلاثين، ظلت منذ زمن بعيد عائشة على هوس في قرارة روحها كان هذا الهوس أول الأمر ينتاب أخاها - وهو ملازم في الجيش ليس فيه ما هو جدير بالاهتمام أو قمين بالالتفات - كل روحها كانت معلقة به، متصلة بمستقبله بأمتن الصلات، اتصالا تتصور أنه لابد يوماً مود بها إلى أرض من أراضي عبقر. وبعد ذلك لما قتل أخوها في (موقدن) أقنعت نفسها بأنها - ويا للسعادة ولحسن الحظ - ليست كالأخريات، وإنها بدلاً من الجمال، وبدلاً من أن تكون امرأة حقيقية تتمتع بما للمرأة من أنوثة، بدلاً من ذلك لها عقل راجح، وفكر ثاقب، هو أسمى من هذه الدنيويات السافلة، هي عاملة من عمال المثل الأعلى.
وأولجا الآن محور أفكارها وخيالها ومبعث كل إعجابها وسرورها، في كل عيد أو عطلة أن تهرع إلى قبرها - وقد ألفت الذهاب إلى المقبرة بعد موت أخيها - تظل ساعات طوالا شاخصة إلى الصليب الخشبي. تذكر وجه (أولجا مسجرسكي) الشاحب المصفر وسط