ولكن الرد طفق يشتد، وظللنا نمشي معاً ذراعاً بذراع، وقال كأنه معي فاوست مع مرجريت!. هو في السادسة والخمسين، إلا أنه لم يزل وسيماً جذاباً. حسن الهندام دائماً - والشيء الذي أنكرته عليه هو أنه جاء اليوم متلفعاً بملفعة تفوح منها رائحة عطر انكليزي ولا تزال عيناه عيني شاب يافع. . لحيته طويلة مسترسلة. مفروقة في وسطها فرقاً جميلا - هي فضية لامعة. - تناولنا الشاي في الشرفة الزجاجية، وشعرت بغتة أن وعكاً خفيفاً عراني فاستلقيت على السرير وظل هو يدخن. ثم جلس بقربي وشرع يقول أقوالاً لذيذة، فيها متعة، وفيها ما يستثير كامن الوجد ومكبوت الهيام. ثم تناول يدي فطبع عليها قبلة حارة. . . فجعلت من منديلي الحريري الكبير ستراً أسدلته على وجهي، وجع ينهال بالقبلات إثر القبلات من فوق المنديل على شفتي. . . لا أدري كيف وقعت الواقعة!. لا أستطيع أن أقول كيف حدثت، قد جن جنوني!. . ما كنت لأحلم يوماً أنني أكون كتلك اللحظة. . والآن لا أشعر نحوه بغير شيء واحد: الاشمئزاز الذي لا قبل لي بحمله. أواه! ما أشد ما ثار في نفسي بعد ذلك من المقت له!!
المدينة في هذه الأيام من أبريل نظيفة نقية، قد ذهبت بأدرانها وأقذارها أمطار الشتاء، وبدت حجارتها بيضاء ناصعة، وأصبح السير فوقها محبباً شهيا. . . في كل يوم أحد بعد القدّاس ترى في شارع الكنيسة المؤدي إلى خارج المدينة امرأة قِمئة ضئيلة الجسم تلبس الحداد، في يديها قفازان من جلد المعز الأسود، تحمل مظلة مقبضها من الأبنوس، تراها تسير في الشارع وما تنتهي منه حتى تجوز ساحته، ثم تعبر السوق المتهدمة حثت الحدادون الكثيرون، وحيث النسيم يهب رقيقاً عليلاً من الحقول القريبة. وهناك على بعد كبير بين الدير والسجن ترى العين المنحدر الأبيض من القبة السماوية، والحقول المترامية تغتسل في تلك القتمة الرمادية. . . وبعد ذلك، بعد أن تجوز البركة الكدرة خلف الدير ترى ما يبدو لك كأنه حديقة فسيحة واطئة محاطة بسور أبيض كتب على بابه: (صعود سيدتنا إلى السماء هناك تقف المرأة وقفة قصيرة ترسم مسرعة بيديها صليباً على صدرها وتسير سالكة الطريق الأصلي؛ ومتى وصلت المقعد إزاء الصليب الجديد المصنوع من خشب البلوط، جلست في تلك الريح الشديدة وذلك الهواء القارس ولبثت كذلك ساعتين. . حتى تؤلمها قدماها من شدة البرد، وهما في ذلك الحذاء الخفيف، وحتى تكاد تجمد يداها من