ومن ذلك أن آفة لحقت غلات أهل البت من جراد وعطش فكلمه جماعة منهم، فوجه ببعض أصحابه ناظراً في أمرهم، وكان في بصره ضعف، فكتب إليه محمد بن علي البتي.
أتيت أمراً يا أبا جعفر ... لم يأته بر ولا فاجر
أغثت أهل البت إذ أهلكوا ... بناظر ليس له ناظر
فبلغه فضحك ورد الناظر ووقع لهم بما سلوا بغير نظر. ولم يكن محمد بن عبد الملك مع هذا مؤثرا موادة منافسيه ولا محسنا مصانعتهم، اعتماداً على أنه أعظم معاصريه شأنا وأخبرهم بتدبير الأمر فلا يسهل على الخلفاء أن يجدوا عنه عوضا، ولكن أعداءه وهم كثيرون وعلى رأسهم القاضي أحمد بن أبي دؤاد أخذوا يكيدون له، ويوغرون عليه صدر الخليفة الواثق هرون الذي كان عليه ساخطا في أيام والده المعتصم، حتى لقد حلف يمينا مغلظة أنه ينكبه إذا صار الأمر إليه ثم يتولى الخلافة الواثق، فيستقبله أبن الزيات ببيتين هما من قوله في رثاء المعتصم.
قد قلت إذ غيبوك وانصرفوا ... في خير قبر لخير مدفون
لن يجبر الله أمة فقدت ... مثلك إلا بمثل هرون
ويأمر الواثق الكتاب أن يكتبوا ما يتعلق بأمر البيعة، فلا يأتي على ما في نفس الواثق في هذا الأمر إلا ابن الزيات فيرضى عنه، ويقره على ما كان في أيام المعتصم، ويكفر عن يمينه. ثم يتولى المتوكل الخلافة متسخطا على ابن الزيات، لأنه كان يتجهمه حين يدخل عليه في أيام الواثق، ويغلظ له القول يتقرب بذلك إلى قلب الواثق، ولأنه أشار بتولية ولد الواثق دون المتوكل، ويجد القاضي أحمد بن دؤاد في إغرائه به، فيجد لذلك عنده موقعاً. ويجيبه بعد أربعين يوماً من توليه الخلافة فيقبض عليه، ويقيده بما زنته خمسة عشر رطلا من الحديد، ويأمر بإدخاله في التنور الذي كثر ما عذب فيه معاقبيه في غير رحمة، ثم يراجع المتوكل الرأي فيه، ويرق له فيأمر بإخراجه، ويبادرون إليه فيجدونه قد مات.