الفناء؟ وانقبض صدري أيما انقباض وامتلأت حزناً وكمداً، وهتفت كل جارحة لي (لا أريد أن أموت). وتتابعت جحافل الليل. فغلب النوم الصغار. ولبثت زوجي عند رأسي وأمي عند قدمي، وانتصف الليل ونحن على حالنا. ثم استدار وأوغل في الرحيل، ثم بهتت ذوائبه بزرقة الفجر. هنالك داخلني شعور غريب بالرهبة وتولاني إحساس بالخوف. وأطبق السكون وأنذر بشيء خطير. ثم شعرت بيد أمي تدلك قدمي وتقول بصوت متهدج (بني. . . بني!) وهتفت زوجي المحبوبة (توتي ماذا تجد؟) ولكني لم أستطع جوابا. لا شك أن أمراً استثار جزعها. ترى ماذا يكون؟ هل لاح في وجهي النذير؟ وتحولت عيناي على غير إرادة مني نحو مدخل الحجرة. كان الباب مغلقاً بيد أن الرسول دخل، دخل دون حاجة إلى فتح الباب. فعرفته دون سابق معرفة فهو رسول الفناء دون سواه. واقترب مني في خطى غير مسموعة: كان مهيباً صامتاً مبتسماً ذا جمال لا يقاوم سحره فلم تتحول عنه عيناي. ولم أعد أرى من شئ سواه. وأردت أن أضرع إليه ولكن لم يطاوعني اللسان. وكأني به قد أدرك نيتي الخفية. فازدادت ابتسامته اتساعا. فآنست منه رفقاً. ولم أعد أبالي شيئاً. انجابت عني وساوس الليل وأحزانه وحسراته. وغفلت عن دموع من حولي. ووجدت نفسي في حال من الاستهانة والطمأنينة لم اعهدها من قبل. سلمت في محبة لا نهائية وتركت جسمي في المعركة وحيداً! رأيت - دون مبالاة ألبته - دمي يقاوم في عروقي، وقلبي يدق ما وسعه الجهد، وعضلاتي تنقبض وتنبسط، وأنفاسي تتردد من الأعماق، وصدري يعلو وينخفض. وشعرت بالأيدي الحنون تسند ظهري وتحيط بي. رأيت ظاهري وباطني رؤية العين بغير مبالاة ولا اكتراث. وقد تحول الرسول عني إلى جسمي وأخذ في مباشرة مهمته في ثقة وطمأنينة والابتسامة لا تفارق شفتيه الجملتين. وشاهدت نسمة الحياة المقدسة تذعن لمشيئته فتفارق القدمين والساقين والفخذين والبطن والصدر، والدم من ورائها يجمد والأعضاء تهمد والقلب يسكت، حتى غادرت الفم المفغور في زفرة عميقة. سكن جسمي وصمت إلى الأبد. وذهب الرسول كما جاء دون أن يشعر به أحد. وغمرني شعور عجيب بأني فارقت الحياة. وأني لم أعد من أهل الدنيا. . .