للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ففي ليلة من ليالينا اللاهية الجادة، أقبل علينا صديق، وبيده الأعداد الأخيرة من مجلة (الرسالة) الغراء. فقلت: هاتها، هاتها، هات مصر مثقفة، هات الينبوع السلسال! فقال: كلا ولكن انصت؛ فصمت وصمت الآخرون، وراح صديقنا يقرأ: (لاحت في جوانب العام المنصرم تباشير السلم كما تلوح في هوادي الليل تباشير الفجر الكاذب، فانبعثت روافد الأماني هنا، وتحلبت أشداق المطامع هناك، وابتهل العالم العربي إلى الله أن يوقيه ويلات السلم، كما وقاه ويلات الحرب، فأوحى إليه أن يتحد. . .)

وهنا هتف صديقنا الأستاذ عبد القدوس الأنصاري: إنها والله زياتية يا رفاق، فقلت: لعلك تعني هذه الفقرة من المقال، فقال: أي والله، أمعن في قوله (فأوحى إليه أن يتحد) فصمتنا جميعاً نتصور مبلغ ما أوتيت هذه العبارة من جمال

ومضى صاحبنا يقرأ حتى بلغ: (ذلك وحي الضرورة نزل على قلوب الساسة فصدعوا به، وعملوا له؛ وهنالك وحي الطبيعة أوحته القرابة الواشجة، واللغة الواحدة، والوطن المشاع. والتاريخ المشترك) فصمت صاحبنا وقد غرقت عيناه بالدموع وكان مؤثراً في قراءته، فالتفت إلى صديقي الأنصاري وقلت: ماذا؟ فقال: حسب الزيات أن يبكي من جراء قلمه الأدباء! ثم وضع جبهته على كفه وراح يفكر، وللأنصاري في عوالم الفكر سبحات

يا لروعة البيان! سطور ثلاثة تجمع كل روابط العرب في بيان ضاحك باك، هذه الروابط التي يبعث ماضيها في النفس سروراً وبهجة، ويسكب حاضرها الكسير في القلب لوعةً وشقاءً!!!

سطور ثلاثة طوت التاريخ منذ خلق الله البشرية إلى اليوم الذي نعيش فيه، (فالوطن المشاع) ما هو غير هذه البلاد العربية؛ مصرها وشآمها، ونجدها وعراقها وحجازها ويمنها وحضرموتها.

ما هو الوطن المشاع غير هذه المقاطعات المقسمة المحددة المبعثرة المفرقة (واللغة الواحدة) ما هي غير لغة القرآن؟ ما هي غير لغة الخلود، لغة الضاد أمنا الزءوم وعزنا القوي، ورجاؤنا الكريم؟

ما هي (هذه اللغة الواحدة) غير ما قلت وغير ما ثار عليه صاحب المعالي عبد العزيز فهمي باشا؟ عفى الله عنه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>