بني إني جئت الحياة مثلك. وقبلي جاء أبي وأبو أبي، في حبل نسل طويل يتصل بآدم أبي البشر. . . لنرى هنا ما تراه أنت اليوم بعيونك الجديدة. وقد أصاب عيني الكلال من كثرة التحديق إلى مشاعل النور التي تراها فوق. . . ولم يشغلني عنها من ظلمات الأرض. وحسبك نظرة بالليل الرهيب لترى أن عينيك غريبتان في هذه الظلمات! لأنها لم تصنع لها غربة روحك في كثافة جسمك التي لم تخلق لها. . .
يا بني إن عينيك مخلوقتان لنور الشمس والنجوم التي تعرفها في السماء. . . وكذلك روحك مخلوقة لنور الكون وروحه. ولا تستطيع حياة الظلام الأرضي. . . فأرفع عينيك إلى منابع نورها، وارفع روحك إلى منبع نورها. . . يا بني إننا ألقينا في ظلمات هذه الأرض لغرض عظيم خفي من أغراض واهب الحياة. ثم لا نلبث أن نرفع ونعود إلى ذلك العالم الذي ألقينا منه.
يا بني فكر دائماً في أن تتخذ سلماً تعرج عليه روحك إلى هذا العالم، ولا تخلد إلى الأرض إخلاد حشراتها وحيواناتها الدنيئة. ولا تدم النظر إلى تفاهاتها وحقارتها وضيقها، لئلا يضيق نظرك وخلقك وفكرك، وتعشى عيناك من رؤية النور، وهو ما يجب أن تبصر به. . . شتان بين عقلين أحدهما يحدق في النور والثاني يأبى أن يرفع عينيه إليه.
الأول أوسع وأعلم وأروح. . والثاني أضيق وأجهل وأكثف. . . لأنه مطارد ملهوف خائف من فوات فرصة حياة الظلام التي لم ير غيرها إلى غير رجعة، فهو يملأ منها كل أوعيته، وكلما امتلأ غاص حتى لا يبقى منه على سطحها إلا ما يبقى من فقاعة على سطح وحل وحمأ مسنون!
على عتبة من عتبات الكون!
إنما مثل الله، جل جلاله، مع أحدنا حين أخرجه من العدم إلى الوجود، وأدخله هذه الأرض ليريه من عجائب ملكوته ما يشير به شهوته وتطلعه للخلود، وحبه للمتاع بملكوته وعجائب صنعه، كمثل غنىٍ أخذ بفقير جائع عارٍ إلى قصره الفاخر، وأوقفه على عتبته وفتح له الباب، فرأى من موقفه هذا ما أثار شهوته للطعام والمتاع والسكني في هذا البيت. . . ولا شك أنه سيسأل هذا الغنى ويتمنى عليه أن يمنحه دخول هذا القصر والخلود فيه والمتاع بما به من بهجة وتعاجيب وثراء. . ولا شك أن موقفه الصحيح ينبغي ألا يكون شغل