أنه راصد يقظ دائماً وراء الحس والفكر، يقول هذا حسن وهذا قبيح، وهذا حق وهذا باطل. . .
إنه من عالم الصحو المطلق، والإدراك الكلي، والخلود السرمدي، والانطلاق الحر، والجمال الدائم. لا يفزع من ذلك المصير الحقير لنعله الباليه التي بها يسير في أوعار الأرض وأشواكها ومجهولاتها ومهولاتها، بعد أن يقضي منها أوطاره. .!
إن هذه الأوصال طين مزوق، لبسته روح الحياة فمنعت عفونته وظلمته، وقللت كثافته. . . ثم لا يلبث إذا فارقته أسرار الحياة أن يختمر ويتخلل، شأنه شأن كل نوع من طين الأرض، يوقد عليه في حرارة الحياة. . . فلا بأس أن يذهب روح الحياة ويتركه يرتد إلى ما كان. . .
ومن الطين وروح الحيوان تولد كائن آخر هو الإنسان الذي يستعلى على ذلك المصير الفاني، ويتعلق بالفكر العالي، والجمال السني، والكمال السري. . . هو الذي فزع حين رأى جيفة الكلب، وأبى حكمه ويقينه أن يكون مصيره مصير روح هذا الكلب، وإن سلم لقميصه المادى أن يجيف كما جيفت جثة الكلب. . .
عطر الخلود ورباه:
خبرت الحب، فلم أره من أشياء هذا العالم الفاني. . . وإنما هو من الخالد. . . هو عطر الخلود ورباه، يهب حين يتماس قلب بقلب فلا يشعر به غيرهما. . .
وإذا صح أن الحب في أكثر حالاته البشرية هو عاطفة مهددة للزواج والشعور بالجنس، أو أنه خدعة لتحقيق مآرب من امتداد النوع. . . وإذا صح أن ثمرة الغريزة هي الولد، والنسل هو امتداد الشخصية الأبوية، وأنه صورة من صور الخلود الذي تتعلق به وتتمناه كل ذات لنفسها. . . إذاً فقد صح قولي، إن الحب هو صبوة النفس إلى عالم الخلد. . .
ويحس الفرد حين يصرعه الحب، ويغدو قلبه في يد هذا الطفل العابث الدائم الطفولة، أنه يتهافت على موارد الحياة، ويهفو قلبه إلى جميع مصادر الأنس والبهجة والتفتح والخفة والطيش إلى ما تعزف النفس عنه حين لا تكون في قبضة ذلك الطفل. وهذا يؤيد عندي أن الحب هو مفتاح الشعور العميق بالحياة، وأكبر دافع إلى خوض غمارها وخبر شعابها.