للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وشغلت عقله كله، فاختار في الحب بحسه وقلبه، ولم يختر بعقله، فيا بئس ما اختار! اختار امرأة جشمته الأهوال، وعلمته كيف تحتمل الآلام، وكيف يتجرع الإنسان مرارة الغيظ: كانت هلوكا فاجرة. وخيل إلى (أغست كونت) أنها نقية طاهرة، فأحبها وأظهرت له الحب، وخطبها فقبلت الخطبة، وتزوجها فقبلت الزواج. وما هو الا وقت قصير حتى تبين من أمرها ما كره. فخاصمها وقاومته، وأنذرها فازدرته، وحاول أن يعاقبها فثارت به، وصبر الرجل فصابر حتى جن. وإذا هو يلقي نفسه في النار، وإذا الشرطة تستنقذه وتدفعه إلى المستشفى، فيقيم مع المجانين حينا ثم يفيق فيستأنف الفلسفة، ويستأنف التعليم، ويستأنف الحب والعذاب. ويجن مرة أخرى، ويفيق وتنقطع الصلة بينه وبين امرأته في غير طلاق، لأن القوانين الفرنسية لم تكن تبيح الطلاق يومئذ. فنشاطه إذا موقوف على الفلسفة والتعليم.

وفي سنة ١٨٤٠ كان فيلسوفنا ممتحنا في مدرسة الهندسة وكان بين الشباب الذين تقدموا إليه في هذا الامتحان غلام في الخامسة عشرة من عمره، هو (مكسيمليان ماري). رآه الأستاذ الفيلسوف وسأله، فأحبه واعجب به، ورأى أن الخير في ألا يقبله هذا العام. فأجله سنة ثم قبله بعد ذلك، واتصلت بين الأستاذ وتلميذه محبة لن تلبث أن بلغت أقصاها، وإذا الفتى يميل إلى أستاذه وفلسفته وإلى الحرية خاصة، وإذا هو يستقيل من المدرسة ويتبع الأستاذ ويتتلمذ له ويعيش من التعليم في المدارس الحرة على كره من أبيه. وفي سنة ١٨٤٤ يتزوج هذا الفتى ويعيش مع امرأته في بيت الأسرة، حيث يزوره الأستاذ من حين إلى حين، وهناك يلقى أخته (كلوتيلد) فلا يكاد يسمعها ويتحدث إليها، حتى تبتدئ بينه وبينها قصة الغرام.

وكانت كلوتيلد هذه في الرابعة والعشرين من عمرها ولكن حياتها كانت ممتلئة بالخطوب. كان أبوها رجلا من الطبقة الوسطى، عمل في جيش الإمبراطورية وارتقى في آخر عهد الإمبراطور إلى رتبة الكابتن، ثم سقطت الإمبراطورية فأحيل إلى الاستيداع، وعاش من مرتبه العسكري الضئيل. وكانت أم الفتاة من أسرة شريفة من أهل اللورين، فنشأت (كلوتيلد) نشأة فيها بؤس وضيق؛ ولكن فيها احتفاظا شديداً بتقاليد الطبقة الوسطى، ولم تكد تتجأوز الخامسة عشرة حتى زوجت من رجل يحمل اسما من أسماء الأشراف. ولكن حظه من الشرف كان قليلا، وهو (ميودي فو). اقترن بالفتاة وعين جابياً للضرائب، وقضى مع

<<  <  ج:
ص:  >  >>