للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

امرأته أعواماً لا هوبالسعيد ولا هو بالذي يمنح امرأته قسطاً من السعادة. ثم أصبح الناس ذات يوم، وإذا هو قد هب إلى سفر مجهول، وما هي الا أن يبحث عنه ويفتش عن أمره، حتى يظهر أنه قد بدد أموال الدولة، وشيئاً كثيراً من أموال الناس في اللعب، ثم هرب من فرنسا، إلى حيث لم يعرف من أمره شيء.

فظلت هذه المرأة الشابة معلقة، لا هي بالمتزوجة، ولا هي بالمطلقة، محزونة، بائسة، لا أمل لها في الحياة. عادت إلى أسرتها تعيش بينها، وعكفت على نفسها تعيد وتبدي ما يجول فيها من خواطر الألم والحزن، ثم أخذت تكتب ما تحس وتقيد ما تجد، وإذا هي كاتبة لها حظ من أدب ونصيب من خيال. وكان جمالها معتدلا لا إسراف فيه. وكانت المحنة قد أفادتها رصانة ورزانة، وأفاضت على شخصها شيئاً من الحب يعطف النفوس عليها، وأجرت في حديثها شيئاً من العذوبة الحلوة الهادئة، يحببها إلى القلوب.

فلما لقيها الفيلسوف في بعض زياراته لأخيها، نظر إليها فلم تكد تبلغ نفسه، ونظرت هي إليه فأنكرته وأكبرته. أنكرت شكله الدميم، وصورته القبيحة، وخلقه المضطرب المرتبك، وأنكرت صوته الغليظ، وحديثه المتكلف. ولكنها أعجبت بذكائه، وأكبرت عقله وفلسفته، وسكتت عنه، وسكت عنها. واتصلت الزيارات، واتصل اللقاء. وأخذت نظرات الفيلسوف تستقر على الفتاة، وأخذت أذن الفتاة تطمئن إلى حديث الفيلسوف، ولكن أحداً منهما لم يشعر بأن صاحبه قد وقع من نفسه موقعاً خاصاً.

كان الفيلسوف يزور الأسرة ثلاث مرات في الأسبوع، وكان يجد لذة ودعة في هذه الزيارة، كان يلقى ثلاثاً من النساء: أم تلميذه وكانت مشغوفة بالتصوير، تحاول دائما أن تصور الفيلسوف، وزوج تلميذه وكانت موسيقية تطربه بالتوقيع على البيانو، وكلوتيلد أخت تلميذه وكانت أديبة تحدثه عن الأدب وعن قصتها التي أنشأتها وسمتها (لوس) ورمزت فيها لحياتها الخاصة، وربما أنشدته شيئا من شعرها. ولم يكن الفيلسوف يحب الأدب ولا يحفل بالشعر، ولكنه كان يجد لذة في أدب كلوتيلد، ويذوق الجمال في شعرها وإن لم يكن هذا الشعر جميلا، وإن لم يكن مستقيم الوزن أحياناً. وكان الفيلسوف يتحدث إلى كلوتيلد عن فلسفته الوضعية، وعن مجلداته الخمسة التي ظهرت تذيع هذه الفلسفة في الناس، وعن أنصاره وخصومه، وعن دروسه في الفلك. وكانت الفتاة تعجب بهذا كله، وإن لم تكن

<<  <  ج:
ص:  >  >>