والراحة في الركوب؛ وما أحلى النوم بعد التعب، وما أحلى اليقظة بعد النوم - وفي الجلوس راحة إذا طال الوقوف، وفي الوقوف راحة إذا طال الجلوس، وفي العمل راحة بعد طول فراغ، وفي الفراغ راحة بعد طول العمل، وفي نظر الصحراء لذة بعد طول النظر إلى البحر، وفي البحر لذة بعد طول النظر إلى الصحراء - ومنظر البحر ابعد عن السأم لأنه في تغير مستمر وحركة دائمة: موجة تعلو ثم تهبط، وموجة تتكسر على الصخر أو الرمل، ثم تسير إلى الشاطئ وتفنى، وتتجدد أخرى وهكذا. ومنظر الأرض ليس نصيبه كذلك من التغير، فالإنسان به أسرع مللاً وأقرب سأماً - وهكذا كل نظام الحياة: الملل من الدوام، والراحة في التغيير.
ما أصعب الحياة الرتيبة وأشقها على النفس! إنها تميت القلب وتبعث على الخمود، ولابد لعلاجها من التجديد، وليس التجديد إلا نوعاً من التغيير، يبعث عليه السأم من القديم، فإذا مل الناس الأدب القديم جدد زعماء الأدب في الأدب. وأتوا للناس بفن جديد يستروحون به، وإذا مل الناس نوعاً من النظام الاجتماعي أتى المجددون بشيء جديد ونظام جديد يذهب بالملل ويجدد النشاط، وليس تغيير الأزياء - وخاصة عند النساء - إلا ضرباً من هذا، هن أسرع خلق الله إلى الملل، وأدعاهم إلى التغير والتجديد؛ فهن يطلعن على الناس كل عام بزي جديد في القبعات والأثواب وكل ما يتصل بهن، شعر قصير بعد شعر طويل، وفستان طويل بعد فستان قصير، وهكذا كثير ما لهن فكثر تغييرهن فراراً من السأم وطلباً للراحة لهن ولغيرهن.
وأقدر الناس في هذه الحياة من استطاع أن يتغلب على السأم والملل بالتغيير المناسب في نفسه وفي غيره. فالأديب القديم من استطاع أن ينوع نفسه وينوع كتابه حتى لا يمل ولا يُملّ، وخير المجلات من استطاعت أن تجدد نفسها من حين إلى حين تجديداً يتفق ومنفعة الناس، ويتفق والرقي؛ فتتغير في أسلوبها وتتغير في موضوعاتها، وتتغير من حين إلى لآخر في كّتابها حتى لا يسأم قراؤها؛ وخير القادة من استطاع أن يجدد في دعوته، فإذا كان له مبدأ واحد يدعو إليه استطاع أن يبرزه كل يوم في شكل جديد يستلفت النظر، ويبعث فيه حياة جديدة تدعو إلى النشاط والحركة.
وكثير من شرور هذا العالم سببه الملل، فكسل التلميذ وانصرافه عن الدرس نوع من الملل،