للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الحسن البصري رضى الله عنه، وهو سيد التابعين وأكبر علماء عصره قدراً، فكان يبتعد عن وظائف الحكم منكراً له في الصمت، ولا يقصر في توجيه النصح الرفيق للحكام، وقد شكا إليه الحجاج ما يجده في مرض موته فقال له: قد كنت نهيتك أن تتعرض إلى الصالحين فلججت. فقال له الحجاج: يا حسن، لا أسلك أن تسأل الله أن يفرج عني، ولكن أسألك أن تسأله أن يعجل قبض روحي، ولا يطيل عذابي. فبكى الحسن بكاء شديداً!

أما سعيد بن جبير فأنه لم يبتعد عن وظائف هذا الحكم، فكان في أول أمره كاتباً لعبد الله بن عتبة بن مسعود، ثم كتب لأبي بردة بن أبي موسى الأشعري، وقد ولاه الحجاج القضاء فضج أهل الكوفة وقالوا: لا يصلح للقضاء إلا عربي. وكان سعيد مولى لبني والبة بن الحارث، وهم بطن من بني أسد بن خزيمة، فاستقضى الحجاج أبا بردة بن موسى الأشعري، وأمره ألا يقطع أمراً دون سعيد بن جبير، ثم جعله في سماره وكلهم من رؤوس العرب، وكان الحجاج يعرفه من عهد ولايته على الحجاز، وقد أعطاه في أول ما رآه مائة ألف درهم يفرقها في أهل الحاجة، ولم يسأله عن شيء منها.

وفي سنة ثمانين من الهجرة جهز الحجاج جيشاً لغزو رتبيل ملك الترك، وولى عليه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي، وجعل سعيد بن جبير على عطاء الجند، وكان الحجاج يبغض عبد الرحمن ويقول: ما رأيته قط إلا أردت قتله. وقد سمع الشعبي ذلك من الحجاج ذات يوم، فأخبر عبد الرحمن به، فقال: والله لأحاولن أن أزيل الحجاج عن سلطانه. وكان عبد الرحمن ينتمي إلى ملوك كنده، فيعتز بنفسه ولا يخضع للحجاج كغيره، وكان يبطن التشيع لعلي (ع) كغيره من أهل الكوفة، فأراد الحجاج أن يرسله في تلك الغزوة النائية ليتخلص منه ويشغله بالجهاد وكان قد غزا رتبيل قبله عبيد الله أبي بكرة في جيش كثيف فهلك في تلك البلاد فسار عبد الرحمن حتى وصل إلى بلاد رتبيل فأوغل فيها، وفتح كثيراً من حصونها، فلما حاز من أرضه أرضاً عظيمة، وملأ يده من الغنائم، حبس الناس عن الوغول في تلك الأرض وقال لهم: نكتفي بما أصبناه العام من بلادهم حتى نجييها ونعرفها، وتجترئ المسلمون على طرقها، ثم نتعاطى في العام المقبل ما وراءها، ثم لم نزل ننتقصهم في كل عام طائفة من أرضهم حتى نقاتلهم آخر ذلك على كنوزهم وذراريهم، في أقصى بلادهم وممتنع حصونهم، ثم لا نزايل بلادهم حتى يهلكهم الله.

<<  <  ج:
ص:  >  >>