يعفو عنه، فإنه حين رآه قال: لعن الله ابن النصرانية - يعني خالداً - أما كنت أعرف مكانه؟ بلى والله والبيت الذي هو في بمكة. ثم أقبل عليه فقال له: يا سعيد، ألم أشركك في إمارتي؟ ألم افعل؟ ألم أستعملك؟ قال: بلى. قال: فما أخرجك علي؟ قال: إنما أنا بشر يخطئ مرة ويصيب مرة. فطابت نفس الحجاج وتطلق وجهه، ورجا أن يتخلص من أمره ثم عاوده في شئ فقال له: إنما كانت بيعة في عنقي. فغضب الحجاج وانتفخ حتى سقط أحد طرفي ردائه عن منكبه، وقال: يا سعيد، ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير، ثم أخذت بيعة أهلها وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك؟ قال بلى. قال: ثم قدمت الكوفة والياً على العراق فجددت لأمير المؤمنين البيعة، فأخذت بيعتك له ثانياً؟ قال بلى قال فتنكث بيعتين لأمير المؤمنين، وتفي بواحدة للحائك بن الحائك، والله لأقتلنك. قال: إني إذن لسعيد كما سمتني أمي. فأمر به فضربت عنقه وإياه عني جرير بقوله:
يا رُبَّ ناكثِ بيعتين تَركتَه ... وخضابُ لحيته دَمُ الأوداج
وقد كان على سعيد وقد اعترف على نفسه بالخطأ في خروجه على الحجاج أن يمضي في ذلك حتى يحقن دمه، وقد قال الله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) وما كان له بعد هذا. أن يعتذر ببيعته لعبد الرحمن، لأنه قد اعترف بخطئه فيها، ولا معنى بعد هذا للاعتذار بها.
وإذا كان سعيد قد أخطأ تلك الأخطاء في هذه القضية، فإن خطأه في أنه لم يتورع عن ذلك الحكم الجائر كما تورع غيره من العلماء، وفي أنه أخطأ الطريق في إنكاره فغلا فيه ووضع يده في يد من لم يكن مخلصاً في إنكاره، ولعله أراد بذلك أن يكفر عن عدم تورعه عنه في أول أمره، ولكن تلك الأخطاء بالغة ما بلغت لا تبلغ خطأ الظلم نفسه، فكان على الحجاج أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب سعيداً، وان يعرف أن ظلمه هو الذي أوقع سعيداً وغيره فيما وقعوا فيه، ولو أنه فعل ذلك لأراح نفسه وأراح الناس جميعاً