للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يجر نفسه وراء أطماع عبد الرحمن في الإمارة والملك، وهو رجل عالم صالح لا أطماع له في مثل ما يطمع فيه، ولا يليق به أن يستخدمه مثله في أغراضه، وما كان أجدره أن يبعد عن الحجاج كما بعد عنه إخوانه من العلماء، وأن يترفع عن وظائفه وأمواله كما ترفعوا عنها، حتى لا يكون له حجة عليه في يوم من الأيام، ولا يؤاخذه بها إذا لم يقم بواجب الإخلاص له عليها وقد جرت حروب شديدة بين الحجاج وعبد الرحمن، ذهبت فيها دماء غزيرة من المسلمين، ولو أنها وجهت إلى رتبيل لاستفاد منها الإسلام، وانتفع منها المسلمون، ثم انتهت هذه الحروب بانتصار الحجاج؛ ففر عبد الرحمن إلى رتبيل يطلب أمانه على ما كان بينهما من الصلح، وهرب سعيد يتنقل في البلاد إلى أن قصد مكة، فكان هو وأناس أمثاله يستخفون فلا يخبرون أحد أسمائهم، فلما ولى خالد بن عبد الله القسري مكة قبض عليهم وأرسلهم إلى الحجاج، وكان لا يعفو عمن خرج مع عبد الرحمن إلا إذا قال له: أتشهد أن قد كفرت؟ فإذا قال نعم عفا عنه وإلا قتله، وهو يرى في ذلك أن من يخرج على الإمام يكون كافرا، لأنه ورد في بعض الأحاديث أن من مات ولا بيعة في عنقه مات ميتة جاهلية، وقد أخطأ الحجاج فهم ذلك الحديث، لأن معناه أنه يموت على مثل ما كان الناس عليه في جاهليتهم، إذ لم يكن لهم إمام يجمع كلمتهم وليس معناه أنه يكون كافراً مثلهم. وكانت مواقف حرجة قتل فيها كثير من العلماء الذين كبر عليهم أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر، وكان لبعضهم لباقة أنقذته من ذلك الموقف الحرج، كما فعل الشعبي وقد أشار عليه إخوانه ونصحاؤه أن يعتذر أمام الحجاج ما استطاع من عذر فلما دخل عليه رأى غير ما ذكروا له، فسلم عليه بالإمرة وقال: أيها الأمير إن الناس قد أمروني أن أعتذر بغير ما يعلم الله أنه الحق، وايم الله لا أقول في هذا المقام إلا الحق، قد والله مردنا عليك وحرضنا وجهدنا، فما كنا بالأقوياء الفجرة، ولا بالأتقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرت إليه أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك، وبعد فالحجة لك علينا. فقال له الحجاج: أنت والله أحب إلي قولاً ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا، ثم يقول ما فعلت ولا شهدت، قد أمنت عندنا يا شعبي فانصرف.

ولم يكن لسعيد بن جبير مثل لباقة الشعبي، بل اضطرب أمره حين وقف أمام الحجاج، ولم يلتزم طريقاً واحدا ينفعه في هذا الموقف الحرج، مع أن الحجاج قد لوح له بأنه يجب أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>