للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يتنسم الهواء منها ويتطعم الروح وهي مضببة بالحديد، ولا يزال يراعي منها الليل ويقدره منزلة منزلة بحساب البادية، وهو بين ذلك يلعن (المالح) عدد ما يسبح العابد القائم في جوف الليل. ويطول ذلك عليه حتى إذا كاد ينشق لمع الفجر لعينه فلا يراه الشاعر إلا كالغدير يتفجر بالماء الصافي ويود لو انصب هذا الضوء في جوفه ليغسله من (المالح) وأوضار (المالح). ثم يأتي الله بالفرج وبصاحب الحانوت فيفتح له، ويغدو ذو الرمة على الممدوح فيقبض الجائزة وينقلب إلى حوانيت البقالين فيوفي أصحابها ما عليه ولا يبقى معه إلا دراهم معدودة، فيخرج من البصرة على حمار اكتراه وقد فتحت له آفاق الدنيا، وكأنما فر من موت غير الموت. ليس اسمه البوار ولا الهلاك ولا القتل، ولكن اسمه (المالح).

قالوا: ويحركه الحمار للشعر كما كانت تحركه الناقه فيقول: أخزاك الله من حمار بصري، إن أنت في المراكب إلا (كالمالح) في الأطعمة. ثم يغلبه الطبع، وينزو به الطرب، وتهزه الحياة فيهتاج للشعر ويذكر شوقه وحبه ودار ميّ، وفي (عقله الباطن) حوانيت وحوانيت من (المالح)، فيأتي هذا (المالح) في شعرة ويدخل في لغته فيقول الشعر الذي أهمل الأصمعي روايته لأن فيه (المالح)، وما أدري أنا ما هو، ولكن لعله مثل قول الآخر:

ولو تفلت في البحر والبحر (مالح) ... لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا

أو مثل قول القائل:

بصرية تزوجت بصريا ... يطعمها (المالح) والطريا

هذه هي الرواية التمثيلية التي تفسر كلام الأصمعي ولا مذهب عنها في التعليل إذا صار (المالح) كلمة نفسية في لغة ذي الرمة على رغم أنف الأحمر والأسود، والأصمعي وأبى عبيدة، فالرجل من الحجج في العربية إلا في كلمة (المالح) فإنه هنا عامي بقال حوانيتي نزل بطبعه على حكم العيش، وغلبه ما لابد أن يغلب من تسلط (وأعيته الباطنية)

والحكمة التي تخرج من هذه الرواية أن ابلغ الناس ينحرف بعمله كيف شاءت الحرفة، ولابد أن تقع المشابهة بين نفسه وعمله، فربما أراد بكلامه وجهاً وجاء به الهاجس على وجه آخر.

وإذا كان في النفس موضع من مواضعها أفسده العمل - ظهر فساده في الذوق والإدراك فطمس على مواضع أخرى، فلا تنظر من صحافي قد ارتهن نفسه بحرفة الكلام إلا يكون

<<  <  ج:
ص:  >  >>