كلها آيات بينات في الأدب، إذ هي من هذه الناحية لا يقدح قيها ولا يغض منها، وما قصرت قط في نقل خاطر ولا استغلقت دون إفهام.
ههنا خوان في مطعم كمطعم (الحاتي) مثلاً عليه الشواء والملح والفلفل والكواميخ أصنافاً مصنفة، وآخر في وليمة عرس في قصر وعليه ألوانه وأزهاره ومن فوقه الأشعة ومن حوله الأشعة الأخرى من كل مضيئة في القلب بنور وجهها الجميل. أفترى السهولة كل السهولة إلا في الأول؟ وهل التعقيد كل التعقيد إلا في الثاني؟ ولكن أي تعقيد هو؟ إنه تعقيد فني ليس الا، به ينضاف الجمال إلى المنفعة فتجتمع الفائدة والاستمتاع وتزين المائدة والنفس معاً، وهو كذلك تعقيد فني لاءم بين إبداع الطبيعة وإبداع الفكر وجاء بروح الموسيقى التي يقوم عليها الكون الجميل فبثها في هذه الأشياء التي تقوم بها المائدة الجميلة، واستنزل سر الجاذبية فجعل للمائدة بما عليها شعوراً متصلاً بالقلوب من حيث جعل للقلوب شعوراً متصلاً بالمائدة.
وهذا التعقيد الذي صور في الجماد دقة فن العاطفة هو بعينه فنية السهولة وروحيتها. وتلك السذاجة التي في المائدة الأخرى هي السهولة المادية بغير فن ولا روح، وفرق بينهما أن إحداهما تحمل قصيدة رائعة من الطعام وما يتصل به، والأخرى تحمل من الطعام وما يتصل به مقالة كمقالات الصحف.
والوجه في الشوهاء وفي الجميلة واحد لا يختلف بأعضائه ولا منافعه، ولا في تأديته معاني الحياة على أتمها وأكملها، بيد أن انسجام الجميل يأتي من إعجاز تركيبه وتقدير قسماته وتدقيق تناسبه، وجعله بكل ذلك يظهر فنه النفسي بسهولة منسجمة هي فنيته وروحيته؛ أما الآخر فلا يقبل هذا الفن ولا يظهر منه شيئاً إذ كان قد فقد التدقيق الهندسي الذي هو تعقيد فن التناسب، وجاء على المقاييس السهلة من طويل إلى قصير، إلى ما يستدير وما يعرض، إلى ما ينتأ من هنا وينخسف من هناك، كالوجنة البارزة، والشدق الغائر، فهذه السهولة المطلقة في الوضع كما يتفق هي بعينها التعقيد المطلق عند الفن الذي لا محل فيه للفظة (كما يتفق).
والطريقة التي يكون بها الجمال جميلاً هي بعينها الطريقة التي يكون بها البيان بليغاً، فالمرجع في اثنيهما إلى تأثيرهما في النفس.