ثم إذا نحن جاوزنا لغة الأدب إلى لغة العلم لما تغير الأمر كثيراً ولا قليلاً. واللغة العلمية والمصطلحات العلمية أحوج ما تكون موحدة. ولن نصل إلى هذا التوحيد إلا إذا قضينا على الحرية المطلقة الفردية في الترجمة وأخذنا المترجمين جميعاً على استعمال تعابير بعينها.
هذا، وإن بعض المواد لا يزال يدرس في (مصر) حتى اليوم باللغة الإنجليزية أو الفرنسية: إما لأن اللغة العربية لا تتسع - كما يقولون - لما وسعه من غيرها من اللغات (وهي التي وسعت فلسفة الإغريق، وحضارة الفرس)؛ وإما لأننا لا نزال ندرج على سنة درج عليها آباؤنا من قبلنا وإن انقطعت اليوم الأسباب التي دفعت بهم إلى فعل ما فعلوا. وليس من سبيل لسد هذا النقص القومي وتمصير الطب مثلاً إلا طوفان من المترجمات يجرف جميع الكتب القيمة التي وضعت في هذه المواد جرفاً ليلقي بها على ساحل اللغة العربية.
وبعد فإن ترك الترجمة فوضى شأنه اليوم يعرض سلامة اللغة لخطر مستمر، وينقل إلينا سيلاً من الكلمات والتعابير الأعجمية التي تنخر في عظام الأساليب العربية الرصينة. وحسبك أن تقرأ كتاباً (كالبؤساء) الذي ترجمه حافظ إبراهيم أو غيره مما ترجم الأستاذ (الزيات) أو (المنفلوطي) وهذه الكتب نفسها إن أشرف على ترجمتها ذوو الترجمات العاجلة الخاطفة لتلمس الفرق بين الترجمتين، ولتدرك أيهما كتب باللغة العربية الفصيحة: من بلاغة في الأسلوب، وصفاء في الديباجة، وسمو في البيان، وتنوع في الصياغة، ودقة في التعبير حتى لكأنك تقرأ القصة في لغتها وبأسلوب كاتبها.
وإنك لتعجب حين تقرأ كتاباً ما ترجم إلى لغات عدة من أن أثر الترجمة لا يحس إلا في اللغة العربية إن نقله إليها من لم يلم إلماماً تاماً بها. ولو علم كثير من كبار الكتاب الأعاجم مقدار ما يصيب آثارهم الفذة من مسخ وتشويه إن أسيء نقلها لحرموا الترجمة ولآثروا أن يظلوا غفلاً في البقاع التي تسودها هذه اللغات المنقول إليها من أن يساء إلى بنات أفكارهم. أو لم تؤلف اللجان لترجمة القرآن حتى يحتفظ له ما أمكن في اللغة التي ينقل إليها بأسلوبه المعجز، وسحر بيانه، وجماله الفني، وتصويره الرائع؟ فليس أمامنا إذا إلا سبيل واحدة لنسلكها حتى نحيط اللغة بسياج متين من تسرب للدخيل إليها وتحفظ عليها