بنيتها وروحها وأساليبها - تلك هي الترجمة الدقيقة المنظمة. ولا سبيل إلى مثل هذه الترجمة إلا إذا قام بها من هو ذو بصر باللغة العربية وباللغة التي ينقل عنها. وإن إنشاء دار للترجمة وتزويدها بأعلام الأدب والعلم والفن ممن يحذقون لغات أعجمية لهو الطريقة المثلى لتحقيق هذه الأمنية.
وإننا - كما يقول الأستاذ الفاضل صاحب الاقتراح - (إذا نقلنا إلى العربية نتائج القرائح لأقطاب العلوم والفنون والآداب من الإنجليز والأمريكان، والفرنسيين والألمان، والروسيين والطليان - أصبح هؤلاء العالميون جزءاً من كياننا الأدبي، وركناً في بنائنا العلمي، نعتز به ونستمد منه ونفتن به ونزيد عليه، كما فعل آباؤنا الأقدمون بما نقلوه من علوم الإغريق والهنود واليهود والسريان والفرس) - ولجددنا في اللغة مع محافظتنا عليها، ودعمنا النهضة، ويسرنا القراءة ودعونا إليها، ولهيأنا للعلوم التي تدرس بلغة أعجمية في معاهدنا العلمية سبيل تدريسها باللغة العربية، ولأمددنا كتاب الصحف والمجلات بأساليب ترفع من ترجمتهم العاجلة، وتسعفهم إن ضاق بهم الوقت؛ ولاستطعنا كذلك أن نضع معاجم عربية - أعجمية يقل فيها الخطأ ويكثر فيها الدقة.
إن مصر ليجهل جمهرة أهلها اللغات الأعجمية. والذين يحذقون أكثر من لغة قليل ما هم. وفي هذا التباين ما فيه من خطر قومي يدفع إليه تباين الثقافات، فمن ثقافة عربية إلى ثقافة أعجمية، ومن ثقافة فرنسية إلى ثقافة إنجليزية أو ألمانية. وفي تنوع هذه الثقافات ما يخلق تبايناً في التفكير بين أفراد الأمة حتى ليتهم بعضهم بعضاً بالقصور عن مسايرة النهضة العلمية الحديثة أو يدل بعضهم على بعض. ولقد ألفت آذاننا سماع تفضيل ثقافة على ثقافة، وألفنا الحديث عن مدارس الثقافة الفرنسية وعن مدارس الثقافة الإنجليزية وهكذا، فاتسعت الهوة بين المنتمين إلى هذه والمنتمين إلى تلك، فإذا نحن نقلنا هؤلاء جميعاً المؤلفات القيمة من مختلف الثقافات جعلناهم يتغذون بلبن واحد فاتحدت طريقة تفكيرهم ومادتها التي لن تكون إلا عصارات هذه الثقافات ممتزجة، وزالت الفوارق بين طبقات المتعلمين، واقتربت وجهة النظر بينهم، وصاروا جميعاً أبناء أمة واحدة يرتوون من منهل واحد هو الثقافة المصرية
ثم ما ظنك بفريق من أدعياء العلم والأدب اللذين بنوا لهم مجداً شامخاً في الشرق على ما