فكفانا بذلك مئونة الجهد في تأييد ما قررناه في كتابنا، وفي الرد على نظريته.
١ - حقا إن حضانة الأولاد أمر غرزي عند معظم الحيوانات على اختلاف يسير فيما بينهما: فأحياناً تتوافر هذه الغريزة عند الأم وحدها؛ وأحياناً عند الأب وحده؛ ولكنها في معظم الحيوانات الزوجية (وهي التي تعيش زوجين زوجين، والتي منها الإنسان) تتوافر لدى الأب والأم معاً. ولكن هل تسير الحضانة في الأسرة الإنسانية وفق ما تميله هذه الغريزة؟ الحقيقية أن النظم الاجتماعية وحدها هي التي تتحكم في الحضانة تحكماً مطلقاً لا تقيم فيه وزناً للغريزة ولا لمقتضياتها، وأن الأسرة الإنسانية تخضع في ذلك لما يسنه لها المجتمع سواء أكانت شرعته متفقة مع منهج الغريزة، أم كانت معدلة له، أم مختلفة معه كل الاختلاف. بل لقد وصل الأمر في كثير من الشعوب أن اصبح واجباً على الآباء أن يقتلوا أولادهم أو بعضهم أو جنساً معيناً منهم عقب ولادتهم أو في سن الطفولة أو يلقوا بهم في مكان قفر أو يقدموهم قرباناً للآلهة، وأبت هذه المجتمعات إلا أن يتم لها ما أرادت ولو كرهت الغرائز، وسارت العائلات وفق ما أملته عليها نظم مجتمعاتها لا وفق ما فطر عليه أفرادها من غريزة. فمن ذلك مثلاً أن النظم الإسبرطية كانت توجب على الأدباء إعدام أولادهم الضعاف أو المشوهين أو المرضى عقب ولادتهم أو تركهم في القفار طعاماً للوحوش والطيور. وكانت الأم نفسها تلجأ إلى مختلف الوسائل لتحقيق هذه الغاية؛ مع أن غريزة الحضانة والحدب على الصغار عند أنثى الإنسان ومعظم الحيوانات الثديية تتجلى في أوضح مظاهرها حيال الضعاف من الأولاد (ولعل الأستاذ العقاد يذكر بيت المهلهل:
كأن كواكب الجوزاء عوذ ... معطّفة على رُبَع كسير
فللتأكد من صلاحية ولدها للحياة في نظر مجتمعه، كانت ستغمسه عقب ولادته في دن من النبيذ، وتركه مغموساً وقتاً ما: فإن عاش بعد ذلك هذا على قوة بنيته واستحقاقه للتربية؛ وإن مات أدت الأم واجبها نحو المجتمع بأن خلصته من كائن ضعيف لا يستحق الحياة في نظره. وهذا النظام نفسه أو ما يقرب منه كان سائداً في أثينا وفي روما وقد أقره فلاسفة اليونان أنفسهم وعلى رأسهم أفلاطون وأرسطو. ومن ذلك أيضاً أن التقاليد الاجتماعية كانت توجب على الآباء في كثير من الشعوب البدائية وغيرها قتل أولادهم جميعاً أو بعضهم في جميع الحالات أو في حالات خاصة لاعتبارات دينية أو اقتصادية. ومن هؤلاء