للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الغرائز؟!

٢ - وأما (الألفة الحميمة بين فئة من الأقرباء) التي ظن الأستاذ أنها أمر غريزي وأنها دعامة لجميع النظم العائلية، فحقيقة الأمر أنها ليست من الغريزة في شيء، وأن النظم الاجتماعية هي التي تخلقها خلقاً، وتحدد مجراها ونطاقها، وتسر بها في السبيل الذي يرتضيه العقل الجمعي، ويتفق مع ما تصطلح عليه الجماعة من أوضاع؛ فإذا كانت الجماعة تسير في القرابة على (النظام الأمي) تألف أقرباء الفرد من أمه وأقارب أمه فحسب، على حين يصبح أبوه وأقارب أبيه أجانب عنه، لا تربطه بهم أية رابطة من روابط القرابة، ولا يشعر نحوهم كما لا يشعرون نحوه بأية عاطفة عائلية، ولا بأية ألفة حميمة أو غير حميمة. وإذا كانت الجماعة تسير في القرابة على (النظام الأبوي)، تنعكس الآية فتتجه العاطفة والألفة إلى الأب وأسرته، وتصبح الأم وأسرتها أجانب عن الولد لا تربطه بهم أية قرابة، ولا يشعر نحوهم بأية عاطفة أو ألفة. وإذا كانت الجماعة تسير في القرابة على النظام المشترك (وهو النظام الذي يعترف بقرابة الولد لكل من أبيه وأمه) مع ترجيح ناحية الأب أو ترجيح ناحية الأم اتجهت الألفة والعاطفة إلى الناحية التي يرجحها المجتمع أكثر من اتجاههما إلى الناحية الأخرى؛ وإذا كان محور القرابة في الأمة يعتمد على ناحية أخرى غير الأب والأم (وكثيراً ما تحقق ذلك في المجتمعات الإنسانية) انقطعت صلة الولد بأبيه وأمه معاً، واتجهت عاطفته وألفته نحو الجماعة التي يلحقه بها مجتمعه.

فلسنا إذن بصدد أمور تحددها صلات الدم أو تقررها الغرائز، بل بصدد نظم تصطلح عليها المجتمعات اصطلاحاً. والألفة التي يتحدث عنها الأستاذ العقاد، حتى في صورتها العاطفية الخالصة: لا تقوم على أساس من الغريزة؛ وإنما تخلقها النظم الاجتماعية خلقاً، وتتجه بها في الطريق الذي تريد. على أن هذه الألفة لا تتمثل في أمور عاطفية فحسب؛ وإنما يتمثل أهم عناصرها في طائفة من الحقوق والواجبات التي تربط الأقرباء بعضهم ببعض. وغنى عن البيان أن هذه الحقوق والواجبات لا تدين بشي إلى الغريزة؛ وإنما مردّها إلى المجتمع وقوانينه؛ بل لقد وصل الأمر في كثير من الشعوب الإنسانية أن انعدمت الألفة بمعناها العاطفي بين أفراد الأسرة الواحدة وبين الأقوياء؛ لأن الأوضاع الاجتماعية كانت تحول دون نشأة الألفة بينهم بهذا المعنى؛ ولم تبق إلا الألفة بمعناها

<<  <  ج:
ص:  >  >>