غراره وخلع عليهم كل ما خصه الله به من عبقرية الدرس وعبقرية النفس، فكانوا لسان صدق للدعوة، وكانوا دعاة مخلصين واجهوا بها الأحداث في إباء وشجاعة، ولاقوا من أجلها الأهوال في قوة وصرامة، وقد كان أبرز هؤلاء الدعاة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رضوان الله عليه، والسيد عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله
أما الشيخ محمد عبده، فقد كان صوتاً متفقاً مع الأفغاني، شاركه الرأي والجهاد في ميدان واحد، وأما الكواكبي فكانت حياته أشبه ما تكون بحياة أستاذه في الرحلة والتنقل من قطر إلى قطر، وكانت تعاليمه ودعوته إلى الوحدة صورة مطابقة لما كان ينادي به الأفغاني. كان الأفغاني كما مر بك يرى أن تقوم الدعاية للوحدة بعقد مؤتمر عام كل سنة في مكة يجمع أصحاب الكلمة والرأي من العلماء لحسم كل نزاع، وتدبير كل ما من شأنه النهوض بالمسلمين، فتطوع الكواكبي لعقد هذا المؤتمر في عالم الخيال أو في عالم الأمل، وندب له أعضاء من جميع الأقطار الإسلامية، ووضع أمامهم حال المسلمين للبحث وتمحيص الرأي، وقد جعل هذا موضوع كتابه المعروف (بأم القرى)، وهو أسم أخذه أيضاً من أسم الجمعية التي كان أنشأها أستاذه بمكة من قبل
ولكن هؤلاء الدعاة، وهم ما هم في صدقهم وإخلاصهم لم يستطيعوا أن يتمسكوا إلى آخر الشوط بدعوة الأفغاني في نصها وحرفيتها كما يقولون، لأن الحوادث كانت تتطور تطوراً سريعاً يحيط بهم، ويكبر على جهدهم، فكان عليهم أن يلائموا بين خطتهم وبين طبيعة الحوادث، وقد تبصر المعتدلون من هؤلاء المريدين والأتباع، فرأوا أن وحدة تشمل سائر الأقطار الإسلامية وتجمعها في صعيد واحد لا يمكن أن تقوم لا في الوضع السياسي ولا الاجتماعي ولا العمران، وأن الفكرة في ذلك فكرة فضفاضة متموجة لا تحدها معالم ثابتة ولا تسندها مقومات متينة، فضلاً عما تثيره من الاتهامات والشبهات وما تلاقيه من المناهضة والمقاومة فعدلوا عن الوحدة الإسلامية إلى الوحدة العربية، واختزلوا رغبة الأفغاني في قيام وحدة تشمل سائر الأقطار الإسلامية إلى وحدة عربية تجمع الأقطار المتجاورة المتشابهة التي وحدت حوادث التاريخ الماضي بينها في اللغة والتفكير والمظهر الاجتماعي، والتي تؤلف بينها الأغراض المشتركة والآمال المتفقة في الفوز بحياة الحرية والعزة، ولم يكن قصدهم (العربية) المحصورة في شبه الجزيرة العربية فحسب، بل كانوا