لأشد الأخطار)، ظهر كل هذا للعقلاء المتبصرين، فأشفقوا من الخلاف القائم، وانبروا يدعون إلى الاتحاد تحت راية الخلافة، ويحضون على وحدة شاملة لمدافعة الخطر، وكانت مصر أفسح ميدان لهذه الدعوة وأعلى صوت في الدعاية لها والحض عليها، لأن ما كانت تعانيه من عسف (كرومر) قد بصرها بالأمر، ولأنها كانت في النهضة الوطنية والفكرية أسبق وأنضج، ولأن صلة (بيتها الحاكم) ببني عثمان كانت تقوم على المودة والقرابة.
وبين عشية وضحايا وضح الأمر وتكشف الحقيقة فيما توقعه أولئك العقلاء، إذ تألبت ممالك البلقان على الدولة العثمانية، ودهمت إيطاليا طرابلس وبرقة وضرب أسطولها بيروت في غير شفقة ولا رحمة، فهز هذا من أريحية المصريين، واستثار عواطفهم وشجونهم، وارتفعت الأصوات بالإشفاق على مجد الإسلام ومعالمه الباقية، وعادت الدعوة إلى الوحدة الإسلامية لتكون قوة في وجه الاستعمار الذي كشف عن ناجذيه في غير مواربة، وقد بذلت مصر بذل المخلص الشريف في نصرة العالم الإسلامي، وأمدت تركيا بهبات سخية من المال والعتاد، وأعانت المنكوبين إعانات فياضة، مما دلّ على الإخلاص في النية، والصدق في العزيمة، والغوث في الملمات.
واطردت الأمور متقلبة متحولة، ومضت الأحوال تجري بين جزر ومد، ولم تلبث الحرب الماضية أن نشبت على أوسع رقعة، ودخلتها تركيا إلى جانب ألمانيا ضد الحلفاء، فطوى كل رأي في صدور أصحابه، ووقف كل دعوة عند حدودها، وأصبح الأمر للدعايات الحربية والسياسات الحزبية والاتجاهات الملتبسة التي لا يرتبط فيها اللسان بالقلب، ولا يتصل فيها القول بالعمل، وفي هذا الجو ظهرت دعوة إلى (العربية) في شكل جديد وعلى وضع جديد، وكان الغرض فيها يدور حول الحركة التي قام بها السلطان (حسين بن علي) في الحجاز، وامتدت دعاياتها إلى سائر الأقطار العربية، وكان هذا الغرض هو ما تكشفت عنه الحوادث في أعقاب الحرب الماضية، وكان أثر هذه الدعوة الجديدة هو ما انتهت إليه بعد.
الخلاصة:
فأنت ترى فيما أوردناه عليك، أن الدعوة إلى الوحدة إنما نشأت (إسلامية) قوامها القرآن في لسان الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وأضرابهم، ثم اختزلت إلى (العربية) في تقدير