هذه الفترة موئلاً للمتمردين على الحكم العثماني من أبناء الأقطار العربية، كما كانت مجال فكرية تملك من الوسائل والأسباب ما لا يملك غيرها من أقطار العالم العربي، وامتد تيار هذه الحركة على أوسع ما يكون، وتألفت أحزاب وجمعيات ومنتديات كثيرة في مصر وبيروت وفي الأستانة نفسها، وكل منها يعمل في طريق للنهوض بأبناء العربية، ووقف الشعوبيون من أنصار الرابطة (الطورانية) يناهضون هذا الاتجاه ويناضلون العرب فيما يدعون إليه، ووجد أنصار الأغراض الاستعمارية لأنفسهم من هذا منفذاً لبث آرائهم ودعاياتهم، فكان أن أصبح الرأي فوضى لأقوام له، وأصبح الدعاة للوحدة والنهوض يخضعون لتيارات مختلفة ويعملون لأغراض متباينة، ففي مصر مثلاً كان الرأي القوي الذائع هو أن تنال مصر استقلالها وأن تتحد مع جاراتها العربية، على أن يكون ذلك في ظل الولاء للخلافة العثمانية، ولكنك كنت تجد في الجهة المقابلة رأياً يدعو إلى الاستقلال عن كل سلطة خارجية وصلة أجنبية ورعاية مصالح مصر قبل أي اعتبار آخر، وفي سوريا والعراق كان جماعة ينتصرون للعربية من عسف الأتراك، ويدعون إلى الوحدة على أن تظل على الإخلاص لبني عثمان، ولكن الرأي السائد عداوة للأتراك، وعصبية للجنس، وتشنيعاً على الاستعمار العثماني في جميع أطواره، وكان أصحاب هذا الرأي يعتقدون أن العرب إذا انسلخوا عن الوحدة العثمانية في مقدورهم (أن يقيموا لأنفسهم استقلال سياسي)، ولا بأس عليهم من الاستعمار الأوربي، وكان أكثر أهل هذا الرأي من (محترفي السياسة وتجارها) كما يقول بعض الكتاب، ولسنا في مقام توزيع التبعات وتحقيق الاتهامات وتفنيد الآراء، ولكنها إلمامة عارضة أوردناها على قدر ما يقتضيه الموضوع الذي نحن بصدد في بيان الأثر الذي امتدت به دعوة الأفغاني.
هذه الفوضى التي اضطربت بالإفهام وبلبلت الأفكار، وهذه الأغراض التي دخلت على الدعاة إلى الوحدة العربية واردة من (أوروبا)، جعلت على العقلاء ينظرون إلى المسألة بعين التبصر مرة أخرى، ويحكمون فيها عقولهم قبل أن يندفعوا إليها بعواطفهم، فظهر لهم أن هنالك خطراً ماثلاً يتهدد كل وحدة في الشرق مهما كان لونها أو اتجاهها، وأن أوربا تريد أن تضع يدها على تركة المسلمين تحت سمعهم وبصرهم، وأن (القوة العثمانية التي تمثل الاستقلال السياسي للمسلمين والتي هي مظهر السيادة الإسلامية قد أصبحت معرض