(على أن النسق القرآني قد جمع بين مزايا النثر والشعر جميعاً. فقد اعفي التعبير من قيود القافية الموحدة والتفعيلات التامة، فنال بذلك حرية التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامة. وأخذ في الوقت ذاته من الشعر الموسيقى الداخلية، والفواصل المتقاربة في الوزن التي تغني عن التفاعيل؛ والتقفية المتقاربة التي تغنى عن القوافي؛ وضم ذلك كله إلى الخصائص التي ذكرنا، فشأى النثر والنظم جميعاً).
هو إذن ليس شعراً وإن أخذ من الشعر خصائصه الفنية فهو نثر. ولكن النثر الذي يرتقي فيه التناسق الفني آفاقاً وراء آفاق على النحو الذي أوضحته في فصل (التناسق الفني) وقلت إن به تقويم هذا الكتاب وهي آفاق لم تبلغ في القديم والحديث بلا ارتياب.
ثم قال:
(وأما الملاحظة فعن الفصل الذي خصصته للنماذج الإنسانية، فقد وجدت فيما استشهدت به من آيات ما يعبر عن طبائع بشرية وسجايا نفسية لا نماذج إنسانية، فالنموذج الإنساني بمعناه العلمي شيء أشمل من هذا، وقد يحوي الكثير من هذه الطبائع كما قد يحوي غيرها. والمهم أنه يعرضها على نحو خاص يتفق ومزاجه الأساسي. والنماذج الإنسانية محدودة معروفة - على اختلاف تقسيم علماء النفس لها - أما الطبائع فلا حصر لها. فلعلك قصدت الطبائع لا النماذج).
وأحسب كذلك أن اختيار كلمة (نماذج) أقرب إلى ما يفهم من طبيعة التعبير القرآني حين يقول مثلاً: (ومن الناس من يعبد الله على حَرْفٍ فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة) أو حين يقول: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألدُّ الخِصام وإذا تولى سعى في الأرض ليُفسد فيها ويهلك الحرث والنسل). . . فقوله:(ومن الناس) يعني: وفريق من الناس. أو وصنف من الناس. أو ونموذج من الناس. . . على السواء.
على أن كل إنسان تغلب عليه (طبيعة إنسانية) معينة، حتى تصبح سمة له يعرف بها وتدل عليه، إنما يصبح (نموذجاً) إذا كان عنواناً لطائفة من هؤلاء الذين غلبت عليهم هذه الطبيعة بعينها (فالمكابرة) طبيعة والمكابر (نموذج) مثل (المقامر) و (البخيل) و (العبيط) وأمثالها من الصور الإنسانية التي أبدعتها أقلام الفنانين، وعرفت في عالم الأدب باسم (النماذج)