وبصدق الحياة كما هي ثابتة في فكره العام. وإن هذا يعطي المثبتين لحقائق الأشياء حججاً دامغة، ويقضي على مذاهب السفسطة والتشكيك. بل متى اتخذ هذا الجانب العظيم أساساً للوحدة الإنسانية الشاملة التي طالما دعا إليها النظريون فلم يستمع إليهم إلا الأقلون؛ لأنهم اعتمدوا على نظريات تختلف باختلاف الأجناس والبقاع، وليست عامة يراها سكان الأرض جميعاً رؤية واحدة ويخضعون لنتائجها خضوعاً واحداً كما هو الحال في رؤيتهم وخضوعهم لنتائج الأبحاث الطبيعة ذات الآثار الواحدة في جميع الأمكنة والأزمان.
ولقد أثبتت سيادة الغرب على الشرق أن عالم القوة المادية هو أساس حياة الحق وعمادها، وأن الحق المجرد لا يعدو أن يكون فكرة فاكر، أو حلم حالم، ما لم تبرزه القوة المادية وتجسمه في أشخاص وآلات.
وبعد أن رأينا مردة الجو والبحر والبر يقذفون القنابل مصارع لراهبات الكنائس، وأطفال المدارس، وعجائز المنازل، وغير هؤلاء من عباد السلام والحق والرحمة: كيف يصح لنا أن نقول إن هناك حقاً يدافع وحده عن نفسه أمام باطل مدرع ببأسه؟!
وبعد أن رأينا أمماً كأمم الهند وشمال أفريقية تعبد الله بالأقوال والأشعار، وتسبح بحمد الحق ليل نهار منذ مئات السنين، يحمها ذلك أمام سيادة القوة وجبروتها؟!
إننا لم نجد غير الأقوياء بالقوة المادية مضطلعين بأعباء الحياة الاجتماعية، فهم أسرع الذين يؤثرون في الأخلاق وفي سير الحياة، ومن عداهم فلا تأثير لهم في مجرى الحياة إلا بمقدار ما تسمح القوة المادية بدراسة آرائهم ومذاهبهم. فلو أن ذوي الأفكار العليا والأخلاق الكاملة التمسوا القوة المادية كالتماسهم الحق، وأثروا بها في مجرى حياة الجماهير، إذا ما وجدنا هذا التخلف الفظيع بين حياة الفكر والخلق وحياة الواقع.
مهما صفا الفكر وامتلأ بالخواطر الراجحة الكريمة فلن يجدي المجتمع جدوى واسعة متعدية، إلا إذا عاونته اليد بوسائل تنفيذ ما يمتلئ به.
ومها امتلأت المعابد فلن يجدي امتلاؤها الحياة شيئاً، إلا إذا امتلأت الشوارع والمعامل والأسواق والحقول والجيوش بمن ينفذ روح العبادة في هذه المجالات.
كل فكرة معرضة للفناء السريع، أو للركود والدفن في الصحف، إذا لم يسعفها التجسيم والتشكيل والتطبيق.