فتركه عليلاً لا يقدر على شيء. وثارت بالسفينة عواصف هوج كادت تحطمها على نواتىء بعض الصخور، حطما، ثم دفعت بها نحو مجموعة من الرضام حتى استقرت دون كبير أذى في أحضان بحيرة ضحلة من الجزيرة المعروفة اليوم باسم جزيرة بيرنج. وكان مجرد بروز القوم من غرفهم الخانقة الهواء كافياً لإزهاق أرواحهم على ظهر السفينة بتأثير البرودة القاسية. وقد اشتدت وطأة العلة على بيرنج فأضجعوه في فرائه، ثم احتملوه إلى قرموص أعدوه له على الشاطئ وهيئوا له منه شبه بيت مسقوف. ولاذ سائر البحارة بمواضع أخرى من الرمال احتفروها لأنفسهم. وهكذا نجا أكثرهم من الهلاك ثم عادوا بعد عام إلى أوطانهم على ظهر سفينة جديدة اصطنعوها من أنقاض (سنت بير) - أما بيرنج فقد كان يحتث الخطى نحو مصيره المحتوم. . . كان يموت! ولم يقد له، فوق هذا، أن يودَع حياته في جو من الهدوء والسلام إذ كانت قطعان من الثعالب القطبية تغير على المعسكر، وتنغص على القوم عيشهم بما تسلبهم من رمام موتاهم وطعام أحيائهم.
ورقد بيرنج مطموراً نصف جسده في الرمال؛ وكان يزعم أن هذا مما يخفف وطأة البرد عنه. والحق أن رجاله قاموا بأكثر مما في طوقهم لإنقاذ وتخفيف ألمه؛ وكان الطعام الطازج موفوراً لديهم بما يصطادونه من حيتان البحر وبقرة وكلابه وسائر أصناف سمكه، ولكن الرجل كان خالفاً لا يتشهى الطعام، ثم أصيب من الوهن بما عجز معه عن ازدراد لقيمة تقيم أوده! وكان لا ينفك يهيل على بدنه كثباناً من الرمل ويزداد غوصاً يف أعماق حفرته كل يوم، كأنما هو يقبر نفسه حياً. وفي صبيحة يوم مقرور ألفاه صحبة غائصاً في الرمل إلى ذقنه وقد اسلم الأنفاس. وهكذا مات بيرنج الرحالة المجاهد. . . ولكن بعد أن أنجز مهمته الخطيرة وشهد انتصاره بعيني رأسه.
بيرنج بعد موته:
كانت حوادث هذه الرحلة من الغرابة بحيث استحال على الكثيرين تصديقها. . . حتى جاء الرحالة الإنجليزي المشهور (كابتن جيمس كوك) فأزال قناع الريبة فيها عن وجه اليقين. وقد جاس في رحلته خلال مضيق بيرنج، وفحص الخرائط التي تركها الرحالة الذاهب، فتبين له مبلغ دقتها، وأمانته في تخطيطها. وهكذا اتضح للعالم أجمع المهمة التي اضطلع بها هذا المستكشف الدنمركي الجريء الذي لم يقابَل بغير السخرية والتكذيب من رجال