ولا كذلك يصنع المحدثون حين يتلقون الحوادث الكبر في عهدهم المشهود أو فيما غاب عنهم من العهود، لأن الحادثة الكبيرة تقع بينهم فإذا هي حيز في الصفيحة، وحديث في المذياع، وصورة على اللوحة البيضاء، وموضع للتحليل في كتاب، وباب للترجمة وسرد السير في سجل من سجلات التاريخ، ودرس من دروس الصناعة في المعامل أو معاهد التدريب. فقد شبع منها الحس واستنفدها اللسان، والحس إذا شبع من شيء لم يرجع به إلى دهشة الخيال؛ واللسان إذا استنفد القول تحليلاً وتعليلاً لم يبق منه بقية للغموض والتهويل.
ترى لو كان (هوميروس) قد شهد حصان طروادة صورة متحركة، وقرأ أبطال الإغريق كتباً مفصلة، وسمع المساجلات بينهم حديثاً مذاعاً أو أصداء على اللوحة البيضاء، وعلم أنه لا أرباب هناك ولا أنصاف أرباب، وأنه لا نبتون في البحر ولا زيوش على متن السحاب - أكان ينظم الإلياذة كما نظمها أو كان الناس يسمعونها منه كما سمعوها؟
إن الخيال يعمل حين يلجئه الخفاء إلى العمل، وإن المرء ليضفي حلل الخيال على الغانية في البرج المحجوب، ولكنه حين يراها إلى جانبه في الترام، وينظر إليها وهي تأكل الطعام، ويستمع إليها وهي تتكلم فتحسن الكلام أو لا تحسن الكلام، يفكر فيها كل تفكير يخطر على البال إلا أن يلحقها بأجواء الخيال.
ولسنا نعني بهذا أن الحوادث في عصرنا لم تبق بقية لخيال الشاعر وبديهة الفنان، ولكننا نعني أن النظريتين تختلفان وأن التخيل في عصرنا أصعب من التخيل في تلك العصور، فما كان يسيراً على هوميروس في أمام طروادة لن يتيسر له هذا اليسر في عصر دنكرك وستالنجراد.
نحن نشبع من تلك الحوادث حساً وفهماً فلا تعجب لها كما كانوا يعجبون وهم يتلقونها بالدهشة والخيال، وعلى هذا قد يمضي السنون الطوال قبل أن نحس ما نحن فيه كما ينبغي أن نحسه، وقبل أن نفهمه كما ينبغي أن نفهمه بمعزل عن الأهواء.