مختلف الصور الذهنية عند مختلف الأفراد. هذه هي المعضلة الأساسية التي تقابل المترجم والرسم: عليه أن يتخير اللفظ واللون ليخرج صورة حية قمينة بالخلود، ولا يتأتى هذا إلا للعبقري.
أما الموسيقي فهي خلو من هذه الصعوبات؛ لأن النغم واحد عند الجميع، إذ هو مستمد من الروح الإنسانية، أو بعبارة أخرى، لأنه غير مرتبط بعوامل خارجية. والموسيقى قبل هذا كله لا ترتبط بالعالم الظاهر فيما عدا تقليدها المباشر لعدد قليل من الأصوات الطبيعية التي تخلقها الطبيعة، مع ملاحظة أن الأصوات جد نادرة في الطبيعة وأن عالمنا الذي نعيش فيه عالم صامت إلى أبعد الحدود، ويمكن التدليل على صحة هذا بأن يتخيل القارئ أنه يعيش وحيداً في الريف أو في الصحراء بعيداً عن الناس وعن ضوضاء المدينة، حيث السكون شامل مطلق.
يتساوى هذا السكون في نظر الأفراد في مختلف بقاع الأرض لأنه غير مرتبط بماديات الحياة. هذا السكون هو الذي وهب الموسيقى ذاتيتها الفريدة، فتعبير الموسيقى عن فكرة وشعوره عن طريق النغم مستمد من صميم العالم الباطن للروح الإنسانية، وهي بهذا وطدت عالميتها وإنسانيتها.
والموسيقى كلغة لا تقدر على ربط معاملات الناس التجارية ولكنها قادرة على التعبير عما يختلج في قلوبنا من عواطف وما يمر في عقولنا من خيالات - كل هذا بأدق وصف، وسهولة أداء وقدرة على التعبير، لأنها أنقى لغة تترجم عن النفس الإنسانية ولأنها تبحث في دنيا الباطن، وليس لها شيء في عالم الظاهر. هي لغة لأنها تنقل للآخرين صورة حية لما بتفاعل في نفس الموسيقىّ من شعور وآمال باطنة هذه الصور هي المظهر الخارجي الذي يفهمه الآخرون بحواسهم. فتعبيرات الموسيقى النفسية هي ألحان موضوعة في نغم موسيقى، والنفس الإنسانية واحدة في الجوهر وإن اختلفت في المظهر، وعلى هذا فالتعبيرات الموسيقية واحدة تنبع كلها من نبع واحد هو النفس الإنسانية وإن اختلفت في الشكل الخارجي.