أن يبرئ الرسالة من جرائر المقالتين اللتين أنحيتُ فيهما باللائمة الشديدة والسخط البالغ على أساليب فرنسا الاستعمارية التي لا تفرق فيها بين الشخصية السياسية للمحكومين لها وبين شخصيتهم الإنسانية والأدبية التي تتطلب غذاء لأرواحهم وعقولهم في هذا العصر الذي تسمونه عصر العلم والنور وارتفاع قيمة المعاني الإنسانية، وقد أدى عدم التفريق هذا إلى تخلف العرب والبربر المحكومين بكم عن قافلة الحياة الإنسانية بمائة سنة على الأقل تقدير. وفي هذا جناية عظيمة على الحضارة بحرمانها من جهود أمة من أذكى أمم الأرض وأعرقها مدنية، وجناية على المبادئ السامية التي زعمتم أنكم أول من أعلنها في ثورتكم الكبرى.
وقد طلبتُ من الباكين على فرنسا في محنتها الحاضرة أن يذكروا محنة بني قومهم بكم قبل أن يذكروا محنتكم بالألمان؛ وأن يكفُّوا عن افتتانهم بحضارتكم فتنة العمى عن عيوبكم وجناياتكم على الإنسان بحرمانه من خبز الروح وخبز البدن. . . مما لم ير العالم له مثيلاً إلا في عصور البربرية والهمجية.
وطلب من هؤلاء الباكين أيضاً أنهم إذا ذكروا (باستور) وفضله على الإنسان كما ذكره الدكتور زكي فليذكروا أنكم الآن تحكمون البشر أقل من حكم البقر والغنم التي كانت في حظائر (باستور) ليجري عليها تجاربه وأبحاثه؛ فقد كان يسمنها ويربيها ويداويها ويبقى على حياتها ويفكر لإنقاذها من الأمراض ويعدها للغاية التي خلقت لها. وإذا أحيا (باستور) ملايين الأجسام فقد أمات قومه ملايين الأرواح والأجسام موتاً مادياً وأدبياً أخف منه الموت بالطاعون والأوجاع الثقيلة التي تقتضي على الإنسان مرة واحدة ولا تهدر دمه وترخص روحه.
وإذا ذكروا (شمبوليون) وفضله على مدينة أجداد المصريين كما ذكره الدكتور زكي فيذكروا أنه جاء مصر غازياً في حملة نابليون الذي نكل بالمصريين تنكيلاً فظيعاً، فإذا احتفل الأول بأحجار قدماء المصريين فقد أباح الثاني لجنوده أن يتخذوا من الأزهر - صاحب الفضل الأول على الدكتور زكي مبارك! - اصطبلاً لخيلهم، وأن يحرقوا أحفاد صانعي الأحجار التي فتن بها (شمبوليون) بالنفط ويضربوا نطاقاً من المواد الملتهبة حول القاهرة وحواضر الأقاليم. وكتب نابليون إلى أحد قواده يأمره بقطع خمسة رؤوس كل يوم