الوجوه، فإذا أقدمت أمة ما على الحرب وهي مبلبلة الآراء، فلا بد من أن تتعرض إلى كوارث ونكبات
وهذا ما حدث فعلا في فرنسا، لأن البلبلة التي كانت تضطرب في نفوس أبنائها حين بدء الحرب، ازدادت يوماً فيوماً من جراء سير الوقائع من جهة وبتأثير إذاعات الألمان من جهة أخرى، ولا شك في أنها كانت علة العلل في أمر الانهيار
وهنا مسألة هامة تتطلب التفكير والاهتمام:
إن تعدد الأحزاب وبلبلة الآراء لم تكن من الأمور الشاذة في فرنسا، بل هي من الأمراض الاجتماعية المزمنة التي كانت تنخر عظم فرنسا منذ غير يسيرة، ومع هذا فأنها لم تؤد في الماضي إلى انكسار وانهيار، لأن الأحزاب كانت تنبذ عادة منازعاتها عندما تشعر بالخطر الخارجي، وتسرع إلى الاتحاد والتكتل عندما يدعوها إلى ذلك داعي الوطن، كما حدث فعلا في الحرب العالمية
فلماذا لم يحدث مثل ذلك في هذه المرة؟ لماذا لم تتحد الأحزاب أمام الخطر الهائل الذي أحدق بفرنسا منذ نشوء الحرب الحالية؟
لا شك في أن ذلك لا يمكن أن يعلل إلا بأن نقول: إن داء الحزبية كان قد أشتد إلى درجة أصبح معها لا يتأثر من ضرورات الحرب، وإن روح الفردية كانت قد قويت إلى درجة تحولت معها إلى أنانية مفرطة تتغلب على الروح الاجتماعية والروح الوطنية.
غير أن هذا التعليل لا يحل المسألة حلا مرضياً، فيجب علينا أن نتساءل بعد هذا التعليل أيضاً: لماذا اشتدت روح الحزبية إلى هذه الدرجة، ولماذا تقوت فكرة الفردية إلى هذا الحد؟
إنني أعتقد أن الدعايات الشديدة المستمرة التي قامت في طول فرنسا وعرضها منذ سنوات ضد النظام النازي والفاشي لم تخل من التأثير الشديد في هذا الباب. إن تلك الدعايات كانت تستهدف - في حقيقة الأمر - تبغيض ألمانيا وإيطاليا، غير أنها كانت تهاجم قبل كل شيء النظام الجديد الذي اختارته لنفسها كل واحدة من هاتين الدولتين مهاجمة عنيفة، وذلك من وجهة تأثيرها على الحرية الفردية في الدرجة الأولى، ولذلك أخذت الدعايات المذكورة تستمد قوتها من (فكرة الحرية) و (نزعة الفردانية) المنتشرة في البلاد، فصارت تزدري حتى ب ـ (روح التكاتف والتراص) و (دعوة التوحيد والتضحية) التي يتضمنها هذان