سنوات قال - وهو يقص علينا ظرفاً من أعمال فرنسا في مراكش - إن الفرنسيين في بلادنا، لقد قابلت مدير البريد في (مرسيليا) لبعض الشؤن، فبهرني برقته وسلاسة حاشيته، فلو أن الفرنسيين في مراكش كانوا من هذا الطراز المهذب الوديع لتشبثنا ببقائهم إذا أرادوا الخروج
من هذا الوقت عرفت أن الفرنسي ذو طبيعتين، فهو عذب دمث كيّس في فرنسا، وفظ عتل في كل بلد يُنكب بسيطرته عليه ولو كان في أوربا نفسها! فسياسة العسف التي سلكتها فرنسا إزاء الألمان عقب الحرب الماضية وتشددها في تقاضي التعويضات وتشجيعها زنوج السنغال على الاختلاط بالفتيات الألمانيات، وعجرفة النمر الفرنسي (كليمنصو) والنقطة المربعة (بوانكاريه) وخلفاؤهم من الغلاة أمثال (ترديو) و (برتو) القائلين: بأن المغلوب يظل مغلوباً أبداَ، وتمسكهم بمبدأ السلامة الإجماعية، وإصرارهم على نصوص معاهدات كان يصفها الساسة دائماً (بأنها عجة مصنوعة من بيض فاسد) ثم عدم مسايرتهم للسياسة الإنجليزية في تشجيع جمهورية (فيمار) الألمانية الناشئة، كل أولئك ممن أقوى الأسباب في إنبات هذا النبات الشيطاني المسمى (النازية) والتمهيد لقيام الطاغية (هتلر) وما استتبع ذلك من وقوع المأساة العالمية التي خرجت البلاد وأفنت العباد!
هذه هي فرنسا في صورتها الأصيلة: حرة مستبدة، لينة وقاسية، كيّسة ومتغطرسة، ومتمدينة ومتوحشة! ولكن حذار فهذه الجوانب الزاهية التي تلبس غلالة إنسانية في الظاهر، فاكهة محرمة على غير الفرنسيين! وهي بضاعة لم تصدر قط - وان تصدر - من (مرسيليا) و (بردو) و (الهافر) إلى الخارج!
فلا يعجبن الأستاذ سيد قطب من قول مجادله (إنك لم تعش في فرنسا) إلى آخر ما قال، فلهذا (البارزياني) بعض العذر، لأنه كان يتكلم وخياله عالق بضفاف السين وغابة بولونيا وعاملات الأزياء!
ولو أنه رنا ببصره إلى فاس والجزائر وتونس العانيات، والى دمشق وحمص وحماة الداميات، لتورع أن ينطق بهذا الهذر والهذيان!