للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الصافي. وغداً أحمد محرم ما بين يوم وآخر شاعر الحركة يزاحم بمنكبيه أمراء البيان. . . وللشاعر في تلك الفترة قصائد تعتبر تاريخاً لها وتسجيلاً للتيارات الفكرية والسياسية في ذلك العصر. أذكر أن له قصيدة عظيمة طبعت كديوان مستقل أوحالها إليه سقوط الدولة العثمانية ومجيء الأنباء باضطهاد مصطفى كمال لرجال الدين واللغة. وقليلون هم الذين يعرفون أن له ديوانين من الشعر العربي القوي، ولندرة الموجود من نسخهما كاد أن ينمحيا من الوجود. وفي تلك الفترة وإلى المؤيد والجريدة وأنيس الجليس وغيرهما من الصحف والمجلات العربية بأشعاره، وخلق له جمهورا من القراء والمعجبين به، وصارت له صداقات أدبية بقادة النهضة الأدبية والسياسية في العالم العربي، إذ لم تكن وقتئذ حدود بينة بين قيادة الفكر والفن وقيادة المجتمع والسياسة؛ كل شئ مسخر لخدمة النهضة ومبادئها، فلم تكن وجدت بعد الأبراج العاجية التي يهرب إليها مترفو الفكر الآن، ولم يكن قد ورد إلى مصر من الخارج ذلك المخدر المسمى الفن للفن الذي يتعاطاه العجزة عن مواجهة الحياة. كان الشعراء والأدباء والعلماء في طليعة المجاهدين، وكان انتقال الشاعر إلى دمنهور بعد وفاة والده طالباً للعيش الهادئ فيها، وليس لديه رأس مال في ذلك البلد التجاري غير الشعر والتقوى. . . وما أخسره من رأسمال في بلد يستطيع أصحابه في إيمان وإخلاص عجيب أن يعبدوا الله والمال في وقت واحد. . .

هي مدينة جميلة ما في ذلك شك، لها تقاليدها الإسلامية العريقة، ومساجدها العامرة دائماً، ولكنها مع هذا لا تقدر غير أصحاب العقليات الزراعية من ملاك المزارع الواسعة وأصحاب المواهب التجارية في تجارة القطن التقليدية وأصحاب محالج الأقطان وإن كانوا أكياساً للغباوة والمال معاً، فتلك المداخن العالية الكثيرة للمحالج التي تزاحم مآذن المساجد بكثرتها واستطالتها، هي السمة الظاهرة لتلك المدينة وأهلها، وعلى الأخص في الفترة التي أعقبت الحرب والتي عظمت فيها تجارة القطن وعظم تجارها. أليس يكون غريباً مع هذا أن ينشد شاعرنا العيش الهادئ في ذلك البلد، وأن يحاول أن ينافس بتجارته هذه التجارة؟ أليس غريباً أن تجد بلبلاً غرداً بين ضجيج الآلات؟ وأن يلهم الشاعر في الجو الخانق من غبار القطن المتطاير أروع القصائد؟

لا أدري كيف استطاع أحمد محرم أن يعيش في الفترة الأولى له ولكني أعرفه بعد ذلك

<<  <  ج:
ص:  >  >>