العويصة التراكيب، ولا الخفية المجلز، وإنما هي التعبير الصحيح الجاري على قواعد اللغة وإن كانت مفرداتها في متناول الجميع.
فلن تنفصل الفصحى إذن من المجتمع، ولن تصير كلغة الكهان التي لا تتلى إلا في المعابد، فان الشعب كله يفهمها، ورقي الشعب بقربها إليه ويقربه منها.
ليس عندنا مبرر إذن لتطعيم لغتنا الفصحى بأكثر ما نستطيع من العامية، ولا أحد يزعم أن العامية كالفصحى ثراء وسعة ومرونة وموسيقية، فالعامية فقيرة، وليست بصالحة لتصوير المعاني الراقية أو خلجات النفوس، فمن أراد التنفيس عما يجيش بين جوانحه من عواطف استمد من معين الفصحى الثر الذي لا يغيض، وإذا اهتاج جرت على لسانه كلمات من الفصحى لم يزورها أو يتكلفها.
على أن العامية باختلاف الأصقاع والأقاليم، فعامية الصعيد تغاير بعض المغايرة عامية الشمال، وعامية مصر تخالف عامية الشام وهكذا، فإذا أضفنا إلى لغة الأدب أكثر ما نستطيع من العامية انفصم الرباط الوثيق الذي ينتظم الأمة العربية، ووأدنا الوحدة التي ننشدها وهي ما زالت في المهد.
وبم تسمى اللغة الجديدة؟ وما خصائصها المميزة لها وهي أخلاط وأمشاج من فصحى، وعامية منها، ومن تركية، ومن أوربية محرفة، ومن أوربية غير محرفة دعا الأستاذ إلى اصطناعها في المقال السابق؟ ولسنا وحدنا بدعا في أن لغة الكتابة عندنا تغاير لغة الخطاب، فهذه المغايرة عامة في اللغات كلها، بيد أن الفرق عندنا أوضح وأبرز؛ لطول العهد بالجهل، والاستبداد، ومحاربة اللغة القومية بالتركية آناً، وبالإنجليزية والفرنسية آناً، ولذا تقاربت اللغتان في ربع القرن الحاضر لما ذاعت الثقافة، وتنسمنا الحرية واعتززنا بالقومية.
ولنفرض جدلا أن الأستاذ على حق في رأيه، ولنتخذ لغة الأدب خليطاً من العربية والعامية، ثم نتقرب قرناً واحدا، فإذا عامية جديدة تشق من اللغة الجديدة؛ لأن الشأن في لغة الخطاب الميل التيسير والتسهيل وعدم التحرز من الأخطاء، فماذا نفعل آنئذ؟ أنؤمن بأن لغة الكتابة لا بد أن تتميز من لغة الحديث المعتاد؟ أم ننشئ لغة للكتابة ملفقة من تلك اللغة التي اعتسفناها من الفصحى والعامية ومن هذه اللغة العامية الناشئة؟