للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أبصرت رجلا - علمت فيما بعد إنه قسيس القرية - قد وقع عن فرسه وغاص في الوحل. فتقدمت لمساعدته وانتشلته بمشقة فشكرني على صنيعي، إلا أني لحقته إلى داره إذ كنت أحب دائماً أن يشكرني الناس عند أبواب دورهم، فألقى على القسيس مائة سؤال وسؤال: أبن من أكون؟ ومن أين جئت؟ وهل أكون أميناً؟ فأجبته كما يحب مؤكداً له بأني لم أذق الخمر في حياتي قط (لي الشرف يا مولاي أن أشرب نخب صحتك)، وبأني من أتقى خلق الله نفساً وأرجحهم عقلا. وقصارى الكلام، لقد كان بحاجة إلى خادم فاستخدمني ولكني لم أعش معه إلا شهرين، ذلك لأنه لم يكن يحب أحدنا الآخر. فقد كنت أكولا وهو لم يكن يطعمني إلا ما يسد الرمق. وقد كنت مغرماً بالجواري الرعابيب على حين أن خادمته العجوز كانت شرسة الطباع قبيحة الصورة. ولقد تآمرا فيما بينهما على قتلي جوعا فعقدت العزم على أن أحول دون اقترافهما جريمة القتل. كنت أسرق البيض حال وضعه، وكنت أفرغ في جوفي ما يتبقى في قناني الشراب التي تقع في يدي، وكان كل ما أصادفه في طريقي من الأكل لابد أن يختفي في لمح البصر. وقصارى الحديث لقد رأيا أن لا فائدة من بقائي ففصلت صباح يوم من الخدمة ودفع لي ثلاثة شلنات وستة بنسات لقاء أجور شهرين كاملين.

(وبينما القس يعد الدراهم كنت أتهيأ للرحيل. كانت ثمة دجاجتان تبيضان فدخلت عليهما كالعادة وأخذت البيضتين. ولقد عز علي أن أفرق الأم وولدها فأخذت الدجاجتين أيضاً ووضعت الكل في حقيبتي وقفلت راجعاً لتسلم أجوري. فلما أزف الرحيل وقفت، والحقيبة على ظهري والعصا في يدي، أودع الشيخ والعبرات تنهمر من عيني. لم أبتعد عن الدار إلا خطوات حتى سمعت صوتاً من ورائي يصيح (اقبضوا على اللص) ولكن الصوت زاد في سرعتي فانطلقت كالسهم، وإن كنت أعلم علم اليقين أن الصوت لم يكن موجهاً ضدي. ولكن مهلا. . . يخيل لي أني قضيت ذينك الشهرين بلا شراب. هات يا صاح، فإن الأيام عصيبة وليكن هذا الذي أحتسيه سماً في جوفي إن أنا قضيت شهرين آخرين من حياتي في ورع مصطنع وزهد سخيف.

(لم أترك خدمة القس حتى أخذت في التطواف، وبعد أيام من تجوالي عثرت على جوقة من الممثلين المتجولين فما رأيتهم حتى هفا لهم قلبي، ذلك لأن حبي للتشرد والمتشردين

<<  <  ج:
ص:  >  >>