للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

جلد الحكماء يستدر إعجابنا، ولكنه في اعتقاد لاروشوكو (ليس إلا فن كتمان اضطرابهم في دخيلتهم) (موعظة رقم ٢٠)، أي أن الحكمة ليست شيئاً آخر غير النفاق. ولو قيد لاروشفوكو هذه الفكرة قليلاً ولم يضعها في صيغة عامة لكان اصح. إذ يروي التاريخ أخبار حكماء كان الجلد عندهم غراماً بالفضيلة لا ينال منه خوف أو أمل. ولنضرب مثلاً: سقوط الحكيم الذي جلس في سجنه قبيل إنفاذ حكم الموت فيه يحدث أصحابه عن موضوعات فلسفية هامة، وهو اشد ما يكون هدوءاً واطمئناناً (راجع فيدون لأفلاطون). وكيف نعرف أن الهدوء الظاهر يخفي اضطراباً باطنياً؟ انه في هذه الحالة ينم عن نفسه مهما حاول المضطرب إخفاءه. ومثل هذا الإنسان لا يسمى حكيماً. وإذا لم يبد لنا اثر من آثار الاضطراب، فليس من حقنا الجزم بوجوده.

وماذا يقول لاروشفوكو عن فضيلة العدل؟ (حب العدل ليس عند كثرة الناس إلا الخوف من وقوع ظلم عليهم) (موعظة رقم ٧٨). وهو لم يميز العدل الذي يصدر عن إيهام نفساني وما يسمى صرخة الضمير وينتج الأعمال الكريمة، من العدل الذي يصدر عن التفكير والروية وينتج القانون الذي يمنع أعمال الظلم من الوقوع.

ثم يقول عن الطيبة: (الإنسان العاجز عن أن يكون شريراً، لا تستحق طيبته المديح، والطيبة في هذه الحالة - أي حالة العجز عن فعل الشر - ليست في الأغلب إلا خمولاً أو ضعف إرادة) (موعظة رقم ٢٣٧). وهذه الفكرة نقد لخلق الملكة ان دوتريش

ونذكر عقب الطيبة قوله عن الفضيلة التي تمت إليها بصلة كبيرة، وهي الشفقة: (الشفقة في الأغلب شعور بآلامنا في آلام الغير. إنها تبصر ما هو في عواقب المحن التي قد تصيبنا. إننا نقدم المعونة للغير لنضمن معونته في ظروف مماثلة لظروفه. وهذه الخدمات التي نسديها إليه هي في الواقع معروف نسديه إلى أنفسنا مقدماً) (موعظة رقم ٢٦٤). وهذه الفكرة لا تدعو إلى العجب بعد الذي ذكره عن الشفقة في معرض حديثه عن نفسه. وقولة (في الأغلب) يدل على إيمانه بوجود الشفقة النقية التي تتفجر من القلب وتسبق كل تفكير وتأمل، وتنتج الخير من تلقاء نفسها، وفي بعض الأحايين على الرغم مما تتطلبه المصلحة الذاتية. وهذه العاطفة الزم ما يكون للإنسانية لأنها بلسم البائسين، تربط القوي بالضعيف، والمجدود بالمحدود، ولن يصيبها العفاء مادام على الأرض بشر.

<<  <  ج:
ص:  >  >>