ذوق في الحياة أرفع من ذوق البلاغة العصرية والبلغاء العصريين
فالسيارة، أو عصر السيارة، يعلمنا أن الفائدة ليست هي كل ما يتوخاه من الكلام، وأنه إذا وجب على الإنسان وهو ينتقل من مكان إلى مكان في عصر السرعة أن يزيد شيئا على فائدة المركبة المقصودة، فأحرى به أن يصنع ذلك وهو يمثل ذوقه وفكره وشعوره وجملة قدرته على التعبير، لأنه قد ينتقل في سيارة شائهة المنظر، وهو مضطر إلى ركوبها كما قيل إن المضطر يركب الصعب من الأمور، ولكنه لا يضطر يوما من الأيام إلى إهمال مزاياه التي يتفاضل بها المعبرون في الإبانة والجلاء والتأثير
ولقد تحدث أولئك البلغاء العصريون عن بلاغتهم العصرية، فإذا بهم كالذي يتحدث عن السيارة فيعيب على الناس أن ينتقلوا في مركبة غير مركبة الحجر أو مركبة التراب، لأن الغرض المفيد من صنع المركبات هو الانتقال السريع، فما لهم إذن لا يجتزئون عن النماذج الفاخرة بهذه النماذج المبذولة، وهي أقل في الثمن وأيسر في التكاليف؟
لو كان هذا الكلام معقولا لكان تصرف الإنسان كله في تاريخه القديم وتاريخه الحديث غير معقول، لأنه لا يكتفي بالفائدة في مطلب من المطالب ولا في عمل من الأعمال، ولا يزال ينسى الفائدة في سبيل الجمال
وأغلب الظن أن تعريفات هؤلاء البلغاء العصريين للبلاغة لا تنتهي في حقيقتها إلا إلى تعريف واحد يصدق عليهم وعلى ما يلفقون من ذلك اللغط الرخيص، وهو أن البلاغة هي ما يستطيعونه ولا يعجزون عنه، فما استطاعوه من كلام، فهو بليغ مقبول، وما عجزوا عنه فهو من البلاغة السلفية ولو دارت ألفاظه وعباراته على أحدث الآراء
وستمضي العصور وراء العصور، وتنتقل الكتابة من أسلوب إلى أسلوب، ومن موضوع إلى موضوع، ولكن العصور كلها عصر واحد في هذه الحقائق التي لا تقبل الشك ولا تأذن بالتبديل
وهي (أولا) أن الكلام الجميل مطلوب كما يطلب الجمال في كل غرض من أغراض الإنسان
وهي (ثانيا) أن البشر لن يستغنوا في زمن من الأزمان عن لغتين إحداهما تحتاج إلى درس وتعليم، والأخرى تكتسب بالتلقين من الأفواه، وإحداهما تصلح للتعبير عن معاني العلوم