ولطائف الذهن وبدائع الخيال، والأخرى لا تصلح لغير البيت والسوق
وهي (ثالثا) أن التراث الأدبي تراث باق يتجاوز عمر الجيل والجيلين والثلاثة أجيال، وما كان كذلك لا يكتب باللهجة التي تتبدل كل جيل وتختلف من بلد إلى بلد، وتستخدم بغير قاعدة ولا أصل تتفق عليه
ومتى كانت هذه الحقائق من وراء الشك والجدل، فالدنيا لن تخلو من لغة خاصة ولغة عامة، أو من لغة المفكرين وأصحاب القرائح والأذواق، ولغة الجهلاء الذين لا يخلقون الصور الذهنية ولا يحسنون فهمها إذا خلقها لهم الآخرون
وإنه لأرحم بالناس وأكرم لهم أن يتعلم العامة كيف يفهمون الخاصة من أن يحرم على الخاصة أن يكتبوا شيئا يعلو على مدارك العامة. إذ الواقع أننا لو استطعنا أن نكتب العلم والفلسفة بلغة السوق والبيت لم نرفع الصعوبة التي تحول بين الجهلاء وبين فهم تلك الموضوعات كائناً ما كان أسلوب الكتابة فيها
وأعجب العجب أن يقال أن الإنسان يتعلم ليحسن الطبخ واللبس والركوب، ولا يتعلم ليحسن فهم جلائل الأفكار ومحاسن القرائح وروائع الفنون، بل يخلق مستعداً لفهمها بما تلقاه من لهجات البيوت والأسواق
ويخطئ من يعتقد أن العامة من الأعراب كانت تفهم أقوال البلغاء ولا تتكلف دراسة لفهمها والنفاذ إلى معانيها؛ فإن الذين فهموا تلك الأقوال البليغة كانوا أناسا يتعلمون ويحفظون الأمثال ويروون السير والأخبار، ويعرفون الأنواء والنجوم، ولا فرق بينهم وبين متعلمي العصور الحديثة، إلا أن هؤلاء يتلقون دروسهم مكتوبة، وكان أولئك يتلقونها منطوقة لا تثبت في كتاب. أما الذين لم يتعلموا على هذا النمط، فقد كان يفوتهم فهم الشعر المسهل فضلا عن الشعر البليغ، ومن أمثلة ذلك تلك الأعرابية التي لامت زوجها على مدح الناس والترفع عن مدحها والتشبيب بها فقال:
تمت عبيدة إلا من محاسنها ... فالحسن منها بحيث الشمس والقمر
قل للذي عابها من عائب حنق ... أقصر فرأس الذي قد عبت والحجر
ففرحت بهذا الهجاء وحسبته من أجمل المدح والتشبيب، وهكذا يفهم مثلها من تسمعه أحيانا من الزجل السهل، وهو عني الفهم رديء المزاج، فإن العامية لا تنفعه في فهم ما ينظم بها