ولقد أصاب الأستاذ الزيات كل الإصابة حين أبطل قول المتحدثين عن البلاغة العصرية إنهم يدعون إلى مذهب جديد؛ فقال:(ربما يزعم زاعم أن هذه العامية الأدبية ترجع إلى مذهب من مذاهب الكتابة دعت إليه حال وبعث عليه تطور. فإذا جاز أن يكون هذا الزاعم، فالغالب في الظن إنه لا يعلم إذا كان يجد، أو لا يجد إذا كان يعلم. ذلك لأن المذهب الكتابي والشعري، إما أن يكون مرحلة تطور لمذهب يتقدم به مبتدعوه، وإما أن يكون رد فعل لمذهب يغلو فيه متبعوه. . .)
وليس في دعوة البلغاء العصريين إلى اللغة العامية أو إلى ما يسمونه بالأسلوب التلغرافي فكرة تسمى مذهبا أو تطورا لمذهب، بل ربما كان التطور الذي حدث في العصور الأخيرة من أسباب سقوط الدعوة والعدول عنها إن كانت قائمة قبل ذلك، لأن العامة يتعلمون في العصور الأخيرة بعد أن كان التعليم في العصور الغابرة وقفا على السراة وذوي الأموال، فلا حاجة إلى الإسفاف باللغة من أجل العامة كما يزعمون، لأنهم في طريق المعرفة إن لم تتم لهم المعرفة جميعا في هذه الآونة، وأيا كان الزمن الذي ينقضي قبل شيوع المعارف الأدبية بين سواد الناس، فما نعلم من أحد من أولئك القائمين القاعدين باسم أولئك السواد يمشي حافيا اليوم، لأن فقراء العامة يمشون حفاة، وينقضي زمن قبل أن يتوافر لهم جميعا لبس الحذاء!
فالتطور الذي أشار إليه الأستاذ الزيات يرتد على البلغاء العصريين، ولن يزال مرتداً عليهم فيما يلي من السنين، وكلما ازداد نصيب العامة من العلم والدراسة قلت اللغة العامية وقل البلغاء العصريون وازدادت البلاغة التي دافع عنها صديقنا صاحب الرسالة فأحسن الدفاع
لقد كان دفاعا جميلا، فلم يضره الجمال ولم يصبه من ناحية الإفادة والإقناع. وقد دافع أناس عن بلاغتهم العصرية، فإذا هو دفاع غير جميل وغير مفيد، وإذا بهم يتكلمون باسم العصر وهم لا يفهمونه ولا يفهمون عصرا من العصور التي سبقته، لأن العصر الحاضر لم تعجله السرعة عن طلب الجمال، بل هو يسرع ويغلو في سرعة ليدرك الجميل ولو تيسر له المفيد