للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(وتلفتت عيني فمذ بعدت ... عني الطلول تلفت القلب)

ثم أورد الأستاذ أمثلة أخرى من الشعر

ولكني أحسب أن (التركيز) ليس في كل الحالات خير ما في الأدب، وأنه لا يغني في كل حالة عن التفصيل والتطويل، وليست التفاصيل الدقيقة التي تعرضها القصة لغواً باطلا يمكن الاستغناء عنه، أو إنها (كالخرنوب الذي فيه قنطار خشب ودرهم حلاوة)! فهي تؤدي مهمة فنية كبيرة، هي إعطاء صورة حية مفصلة من الحياة الإنسانية

والعقل يشبه الجسم في تمثيله للغذاء واستفادته منه، والجسم حين يقدم له من الطعام ما يمضغه، ثم يبتلعه، ثم يهضمه، ثم يمثله، ثم ينفي ما فيه من فضلات غير نافعة، يكون أنشط وأكثر استفادة مما لو أخذ مادة هذا الطعام بعينها (مركزة) في قرص صغير

والأستاذ يشير إلى مثل هذا المعنى حين يقول:

ليست خلاصة كل شيء غنية ... عنه ولو كانت خلاصة ماهر

ثم أحسب أن الأستاذ يكاد يستدل على إسفاف القصة بأن قوماً كالشيوعيين قد استغلوها في دعوتهم إلى أقصى حدود الاستغلال، وقالوا إنها اشرف أبواب الأدب

ولكن الشيوعيين قد استغلوا كل أنواع الأدب ومن بينها الشعر، وهذا شاعرهم الكبير (بوشكين) شاهد على ذلك، فلا يقال إن الشعر أو القصة فن غير رفيع لأن الشيوعيين قد استغلوه، وإنما يقال بحق إن القصة في إنتاج ما بعد الثورة قد هبطت كثيراً عما كانت عليه أيام تولستوي ودستيوفسكي لأنها اتخذت مظهر الدعاية وحادت عن الأدب الرفيع

ولاشك في أن القصة تستطيع أن تسف أكثر مما يستطيع الشعر أو غيره من الفنون الرفيعة، ولكن ذلك لا يعني أن القصة الجيدة ليست فناً رفيعاً، أو إنها لا تحتل مكانة عالية بين الفنون الإنسانية الكبيرة

وليس دفاعي عن القصة ومكانتها اندفاعاً مع العصر الحديث، فإن هذا العصر قد بالغ في شأنها أكثر مما ينبغي، ولكن إذا كانت مهمة القراءة كما قال الأستاذ في كتابه هي (الاستزادة من الحياة)، فإن القصة الجيدة كالشعر الجيد والفنون الأخرى ضرورية لتلك الاستزادة لا يغني عنها وغيرها من الفنون

محمد قطب

<<  <  ج:
ص:  >  >>