للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الحديث من مصادر الدين الصحيحة، والأسانيد التاريخية الوثيقة لعلي أقف على شيء يذهب بما في صدري من حرج ويصرف ما بنفسي من ضيق، وذلك لأن هذا الأمر الجليل لم يفرد من قبل بالتأليف المستقصى أو التدوين المستفيض.

ولبثت في البحث والتنقيب زمنا طويلا إلى أن انتهيت من أمر (الحديث المحمدي) إلى حقائق غريبة ونتائج خطيرة، ذلك أني وجدت أنه لا يكاد يوجد في كتب الحديث كلها ما سموه صحاحاً وما سموه سنناً حديث قد جاء على حقيقة لفظه ومحكم تركيبه، حتى لقد قال الإمام الشاطبي في الاعتصام: (أعوز أن يوجد حديث عن رسول الله متواتر) ووجدت أن الصحيح منه على اصطلاحهم أن هو إلا معان مما فهمه الرواة من أقواله صلى الله عليه وسلم. وقد يوجد بعض ألفاظ مفردة قد بقيت على حقيقتها في بعض الأحاديث ولكنك لا تجد ذلك إلا في الفلتة والندرة؛ ومن أجل ذلك جاءت أحاديث الرسول وليس فيها من نور منطقه، أو ضياء بلاغته إلا شعاع ضئيل.

كان أول ما انكشف لي من هذه الحقائق أن النبي (ص) لم يجعل لحديثه كتابا يكتبونه عندما كان ينطق به كما فعل ذلك بالقرآن، وبذلك تفكك نظم ألفاظه وتمزق سياق معانيه من أذهان السامعين. ولم يدع الأمر على ذلك فحسب بل نهى عن كتابة غير القرآن أو تدوينه فقال: (لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن؛ فمن كتب عني غير القرآن فليمحه) رواه مسلم وغيره، ثم اتبع أصحابه طريقه وأطاعوا أمره فلم يكتبوا أقواله كما كتبوا القرآن. ولم يقف أمرهم عند ذلك بل ثبت عنهم أنهم كانوا يرغبون عن رواية الحديث وينهون الناس عنها، وينتقد بعضهم بعضا فيما يأتي منها ويتشددون في قبول أخبارها حتى لقد كان عمر رضي الله عنه لا يقبل الخبر من أي صحابي إلا إذا جاء بشاهد يشهد أن النبي قاله.

رواية الحديث بالمعنى

ولما رأى بعض الصحابة أن يرووا من أحاديث نبيهم ووجدوا أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بأصل الحديث كما سمعوه على لفظه، كما نطق النبي الكريم به، وإن الذاكرة لها حكم يجب الإذعان له والنزول عليه أباحوا لأنفسهم أن يرووا على المعنى. ثم سار على سبيلهم كل من جاء من الرواة بعدهم فيأخذ المتأخر عن المتقدم ما يرويه عن الرسول بالمعنى ثم ينقله إلى غيره بما بقي في ذهنه من هذا المعنى. وهذا أمر معلوم بينهم حتى لقد قال وكيع كلمته

<<  <  ج:
ص:  >  >>