تجن. كانت تطمع أن يواريها في التراب بعد عمر طويل، فوارته في التراب هي بعد عمر قصير، وكانت ترجو أن تودعه وهو سعيدا بأسرته الجديدة، فودعها وقد تركها للوحدة والقنوط. أما إحسان، فكانت أشقى أخت وأشقي فتاة، فقدت - أو هكذا خالت - الأمل الحاضر والأمل المتخايل في غضون المستقبل. وترك الرجل معاشا جنيهين وربع جنيه، ولكنه أورثهما مدخره مائة وخمسين جنيها التي كان أعدها لنفقات زواج إحسان وزواجه هو فيما بعد. ولبست الأسرة الحداد وباتت في حزن اليم. إلا أن الله الذي لا يرد قضاؤه خففه باللطف والرحمة. فقد كان لإحسان عمة عاقر على جانب من الثروة فآوت الشابة وأمها. وكانت إحسان فتاة عليلة وقعت منذ الصغر فريسة لمرض عصبي طال أمده فاستفحل بالإهمال - إذ كان أخوها كأمه ضعيف ثقة بالطب - وكانت إلى هذا حولاء، فاختفى حسنها وراء أهاب شاحب وجسم هزيل وحول ذميم؛ وربما أدرك الناظر إليها أن شبابها غير عاطل من جمال، ولكنه جمال مختنق تأبى عليه أثار العلة والحول أن يترعرع ويزدهر، فجسمها لطيف التكوين، إلا أنه ذابل، ووجهها مستدير حسن القسمات، إلا أنه مصفر عليل، وعيناها صافيتان واسعتان، ولكن قبحهما الحول وأخفى نظرتهما الحنون. ثم جاء موت أخيها علة على علة فانهارت قواها وغلبها الحزن، فازدادت ضعفا على ضعف وشحوبا على شحوب، وأوفت من مرضها على نهاية خطيرة. ذاك كانت حلها حين فتحت لها صدرها عمتها، ثم أخذ كل شئ يتغير من بعد ذلك، بدا هذا التغير في الأشهر الأولى التي أعقبت الوفاة، ثم صار طابع الحياة الجديدة وأملها المرموق، ووجدت الفتاة عناية لم تكن تجدها من قبل، فاقبل إليها يدعون لها ويقولون لامها (ربنا يفرحك بإحسان)، وغمروها بالعطف والحب والدعاء، ومنحتها أمها جامع قلبها وكان لها نصفه أو أقل قليلا. أما الذي فازت به حقا، وكان فوزها به عظيما، لأنه بعثها بعثا جديدا، فهو قلب عمتها، تلك المرأة الطيبة المحبة التي تتفجر نفسها رحمة وحنانا، أحبتها كما كانت تحبها، وأحبتها كما كانت تحب أخاها، وأحبتها كما كانت تود وتتمنى أن تحب أمثالها من الذرية التي حرمتها، فمن أي هذا الحب أن قبلتها يوما وقالت لها:
- لا تستسلمي للحزن رحمة بنفسك ورحمة بأمك المحزونة وقالت لها مرة أخرى وقد المها ما تراه في وجهها من الشحوب والذبول