وما الشهادة للنبوة إلا أن تكون نفس النبي أبلغَ نفوس قومه حتى لَهو في طباعه وشمائله طبيعة قائمة وحدها كأنها الوضع النفساني الدقيق الذي يُنصب لتصليح الوضع المغلوط للبشرية في عالم المادة وتنازع البقاء. وكأن الحقيقة السامية في هذا النبي تنادى الناس: أن قابلوا على هذا الأصل وصححوا ما اعترى أنفسهم من غلط الحياة وتحريف الإنسانية.
ومن ثم فنبي البشرية كلها من بُعث بالدين أعمالاً مفصلة على النفس أدق تفصيل وأوفاه بمصلحتها، فهو يعطي الحياة في كل عصر عقلها العملي الثابت المستقر تنظم به أحوال النفس على ميزة وبصيرة، ويدع للحياة عقلها العلميَّ المتجدد المتغير تنظم به أحوال الطبيعة على قصد وهدى، وهذه هي حقيقة الإسلام في أخص معانيه، لا يغني عنه في ذلك دين آخر، ولا يؤدى تأديته في هذه الحاجة أدب ولا علم ولا فلسفة، كأنما هو نَبعٌ في الأرض لمعاني النور بازاء الشمس نبعِ النور في السماء.
وكل ذلك تراه في نفس محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهي في مجموعها أبلغ الأنفس قاطبة؛ لا يمكن أن تعرف الأرض أكمل منها؛ ولو اجتمعت فضائل الحكماء والفلاسفة والمتأهلين وجعلت في نصاب واحد - ما بلغت أن يجئ منها مثل نفسه صلى الله عليه وسلم. ولكأنما خرجت هذه النفس من صيغة كصيغة الدرة في محارتها، أو تركيب كتركيب الماس في منجمه، أو صفة كصفة الذهب في عرقه. وهي النفس الاجتماعية الكبرى، من أين تدبّرتها رأيتها على الإنسانية كالشمس في الأفق الأعلى تنبسط وتَضحي وتلك هي الشهادة له صلى الله عليه وسلم بأنه خاتم الأنبياء، وأن دينه هو دين الإنسانية الأخير. فهذا الدين في مجموعه إن هو إلا صورة تلك النفس العظيمة في مجموعها، صلابته بمقدار الحق الإنساني الثابت، لا بمقدار الإنسان المتغير الذي يكون عند سبب جبلاً صلداً يشمخ، وعند سبب آخر ماءً عذباً يجري.
وهو دين يعلو بالقوة ويدعو إليها، ويريد إخضاع الدنيا وحكم العالم، ويستفرغ همه في ذلك، لا لإعزاز الأقوى وإذلال الأضعف، ولكن للارتفاع بالأضعف إلى الأقوى. وفرقُ ما بين شريعته وشرائع القوة، أن هذه إنما هي قوة سيادة الطبيعة وتحكمها، أما هو فقوة سيادة الفضيلة وتغلبها؛ وتلك تعمل للتفريق، وهو يعمل للمساواة؛ وسيادة الطبيعة وعملها للتفريق هما أساس العبودية، وغلبة الفضيلة وعملها للمساواة هما أعظم وسائل الحرية.